ملاكمو الصين الجُدد !
أمستردام – محمد موسى
لعقود عديدة، كان الريف الصيني منطقة مُغلقة على الإعلام الأجنبي. الصين نفسها كانت، والى سنوات قليلة ماضية، لا تفتح أبوابها بسهولة للغرباء، وحتى عندما تحولت الصين الى القوة العالمية الإقتصادية الكبرى، التي نعرفها اليوم، إحتفظ ريفها بتلك السريّة والتَحفظ، وكأنه مازال يعكس وجه الصين “الحقيقية”، بمشاكلها وتحدياتها ومُحرماتها، وهي الصورة التي يجتهد زعمائها، بأن تبقى بعيداً عن الإهتمام الإعلامي الكبير، موجهين التركيز بالمقابل، الى المدن الصينية الناجحة، والتي تُبرز وتَحتفل بالصين الجديدة، كدولة متفوقة، حققت إنجازات، تماثل المعجزات، في مقاييس النجاح الإقتصادي والعمراني لهذا العصر. تُظهر الفروقات بين الريف والمدن الصينية، والتي أبرزتها أفلام وبرامج تلفزيونية اوربية من السنوات الماضية، الوجه الآخر لما يُسمى إسطورة النجاح الصيني، ففي مقابل مدن عصرية تولد وتنمو في بضعة سنوات، هناك مئات الملايين من الصينين يعيشون في فقر شديد، بعيدون كثيراً عن التطور التكنولوجي في بلدهم، والذي يشاهدوه، مثلنا تماماً، عبر الشاشات التلفزيونية فقط.

الريف الصيني سيكون البيئة الجغرافية والإجتماعية للفيلم التسجيلي ” الصين للوزن الثقيل” للمخرج الصيني الكندي يونغ تشانغ، بل يمكن القول إن الريف هذا هو بطل الفيلم، رغم إن موضوعة الفيلم تبدو في ظاهرها بعيدة كثيراً، عن القراءة السوسيولوجية لسكان الريف الصينيين والتطورات التي تشهدها حياتهم في الفترات التي أعقبت تراخي الفكر الشيوعي في البلد، و دور المدن الكبيرة، بما شهدته من تغييرات هائلة، في تسريع تلك التغييرات. يَهتم الفيلم بموضوعة عودة رياضة الملاكمة الى الصين. هو يركز هنا على هذه العودة في منطقة محددة من الريف الصيني، والتي يصلها مدربي ملاكمة صينيين، لدفع طلاب مدارس وشباب للإقدام على ممارسة هذه الرياضة، التي منعها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ لعقود طويلة، بسبب ما إعتبره من ترويجها لهويّة أمريكية مُعادية، قبل أن تعود الملاكمة الى الحياة الرياضية الصينية قبل ثلاث عقود فقط.
سيُرافق الفيلم شخصيات معنية بإهتمام متفاوت، منها، شاب يحلم بالإحتراف والهجرة الى مدينة كبيرة، وملاكم يتطلع بدوره للعودة للحلبة، بعد عقد من التوقف، لأسباب لم يكشفها الفيلم. هاتان الشخصيتان سيمنحان الفيلم خطين سرديين واضحين. الفيلم سيهتم كثيراً بمحيط هاتين الشخصيتين البيئي، فيقدم مشاهد تتنوع بين التركيز على جمال الريف الصيني المختلف، بجغرافيته وألوانه، و إخرى حميميّة تسجل يوميات المكان والزمان الذي تعيش فيه الشخصيات. من المرجح إن المخرج الذي قضى معظم حياته في كندا، فُتِّنَ بالإختلاف الذي يُميز الريف الصيني، وبخصوصية سكانه، لذلك رغب بتسجيل ما يستطيع من ذلك المكان. لا ينكف البطل الشاب في الفيلم عن ترديد حلمه بترك ريفه والتوجه الى المدينة الكبيرة. هذه الرغبة بذاتها، هي حلم أزلي للانسان بإكتشاف العالم والبحث عن حياة أفضل، لكنها تأخذ في الفيلم، معاني مضاعفة، فالفروقات بين الريف والمدينة في الصين، هي خارج قدرة بعض أبناء الأرياف على الإحتمال، عندها تغدو الهجرة قدراً لا مفر منه، ويشبه الولادة الثانية.
يتجنب المخرج يونغ تشانغ المقابلات المباشرة، هو يرافق بكاميراته شخصياته في حياتها العادية، كما إنه لا يسعى للحظات عاطفية كبيرة. هو يكتفي بالمراقبة، فيصور تدريبات شخصياته الرياضية الشاقّة للقادم من الأيام، كما يرافق البطل الشاب في أيامه الأخيره في قريته، بإتجاه المدينة الكبيرة.

الكاميرا ستصوره وهو يركب الباص بحقيبته الكبيرة، ثم تعود لتصوره مجدداً يمسح الأرض في عمله الشاقّ في المدينة التي حلم بها دائماً. الفيلم بهذا يندرج تحت فئة سينما المراقبة، والتي تتيح للمتفرج الفرص لتحليل المعانيّ وتأويل ما يحدث أمامه، والتركيز على التفاصيل الصغيرة . بدا إن المخرج صور فيلمه بكاميرا صغيرة، فهو لم يجذب إنتباه المارة، في الأماكن العامة التي صّور فيها، وكما يحدث كثيراً مع الأفلام التسجيلية ذات الفرق الفنية الكبيرة، كما إن الفيلم يحمل ذلك اللون الخاص، الذي أصبح يميز التصوير بالكاميرات الفوتغرافية الصغيرة، والتي يمكن أن تصور أفلام بجودة عالية. اللون هذا جعل الفيلم يتميز بمشهديته عن الوثيقة التسجيلية اليومية المصورة بألوان الحياة الطبيعية، وليحوله الى عمل فني جماليّ، إتجه الى اكتشاف منطقة مازالت صورتها غير شائعة في الافلام التسجيلية او في التلفزيون. البحث عن جماليات المكان وعلاقته بالشخصيات، والتي ميزت معظم الفيلم، ستصل الى خاتمة مبهرة فنياً ، عندما يكشف المخرج عن موهبة فذة، بتصوير مباراة الملاكمة لبطل الفيلم العائد الى الحلبة مع ملاكم ياباني. المخرج هنا يضيف الى انجاز مخرجيين من تاريخ السينما ، إنشغلوا كثيراً بتصوير مُبتكر لمباريات الملاكمة ( مارتن سكورسيزي في “الثور الهائج”، وسلسلة أفلام “روكي” الأمريكية كأمثلة) ، هو هنا ينتقل من اللقطات الواسعة الى المتوسطة ، وأحيانا المقربة بتوليف يقطع الأنفاس، ويحقق توازناً رائعاً ، بين مشاهد تظهر قسوة اللعبة ووحشيتها ، وإخرى حميميّة مُقربه لبطله ، تأتي مُنسجمة مع خط المخرج العام في الفيلم ، والذي غلفه الرِقة والحب لشخصياته والتأثر بمصائرها.