ملتقى هرقلة السينمائي… جغرافيا الإبداع
وسيم القربي- تونس
شهدت مدينة “هرقلة” الهادئة تنظيم حدث سينمائي إفريقي ومتوسّطي… هناك في تلك الرقعة الهادئة تحوّل الصمت إلى عرس إفريقي صاخب… مدينة تحتفي بثقافات الشعوب وتستلهم من البحر بعدا إنسانيا يجعلنا نكتشف صورا تتراقص على الشاشة لتنقل إبداعات حديثة وتعرّف بثقافة أخرى تجعل من السينما بمثابة التلاقح الحضاري…
ملتقى هرقلة السينمائي… الدورة التاسعة
انعقدت الدورة التاسعة لملتقى هرقلة السينمائي في الفترة الفاصلة بين 06 و11 سبتمبر بتنظيم من جمعية إفريقيا والمتوسط للثقافة، هذا وقد تعرّضت هذه الدورة إلى التأجيل أكثر من مرّة بسبب الظروف السياسية الصعبة التي جعلت الحقل الثقافي ضبابيا إلى أبعد الحدود. وقد انتقت لجنة الاختيار 37 فيلما من جملة 325 فيلم تقدموا للترشح لهذه الدورة واتفقت اللجنة على عرض 11 فيلم وثائقي و26 فيلم قصير من تونس والجزائر والمغرب ومصر والسودان وفلسطين ولبنان ومالي والسينغال والكونغو وتركيا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال وبلجيكيا.
افتتحت هذه الدورة بعروض موسيقية وتكريم للراحل توفيق صالح الذي توفّي يوم 18 أوت الفارط، وقد تمّ عرض مجموعة من صور الراحل بالإضافة إلى شريط وثائقي أنجزه في بداياته، وقد تسلّم التكريم، ابن الراحل، محمد توفيق صالح الذي عبّر عن العلاقة الحميمة التي جمعت والده بالسينمائي التونسي الراحل الطاهر شريعة مؤسس أيام قرطاج السينمائية.
كما حضر العديد من السينمائيين الأجانب مثل المخرج الجزائري حميد بن عمارة والسينغالي وليام مباي والفرنسية السينغالية لورانس أتالي…
تمّ عرض فيلم بعنوان “بوروم ساريت” وهو فيلم تمّ إخراجه سنة 1963 من طرف رائد السينما الإفريقية عصمان صمبان والذي تمّ عرضه هذه السنة ضمن كلاسيكيات مهرجان “كان”. وقد تمحورت جلّ الأفلام لهذه الدورة حول الذاكرة الجماعية وقضايا التنمية والمرأة داخل الأسرة وبالتالي طرحت أغلبها مفهوم الحدود والتغيرات في بلدان الجنوب.

وتمّ خلال هذا الملتقى تأطير ورشة تكوين خصّصت للفيلم الوثائقي ومحور الحفاظ على الذاكرة لفائدة السينمائيين الشبان المشاركين من طرف المخرجان السينغاليان وليام مباي ولورانس أتالي.
ولعلّ الملاحظة البارزة في هذا الملتقى هو جدّية التنظيم بالرغم من الصعوبات المادية التي يرى مدير المهرجان محمد شلوف أنها عائق أساسي تمنع هذا الحدث من تحقيق قفزة نوعية. وقد أمّن سير الملتقى مجموعة من الشباب مدعوما بخبرة المولعين والمولعات بالصورة، كما أنّ ما نستشفه هو جدّية المتفرّج الذي يتابع الفيلم بانتباه منقطع النظير قبل أن يطلق العنان لأسئلته للمخرج والتي غالبا ما يدوّنها في كنّش خاص بذلك الحدث السينمائي.
السينما الإفريقية: الراهن والمستقبل…
هل يمكننا فعلا الحديث عن سينما إفريقية؟ ما هي الخصوصيات التقنية والموضوعات التي تميّز هذه السينما؟ هل من الممكن تأسيس مرجعية سينمائية إفريقية؟ ما هي أبرز العراقيل الإبداعية في إفريقيا؟ أسئلة من كمّ تُطرح لتُبقي تلك الأسئلة حائرة بدورها. من خلال هذه الدورة السينمائية التي جعلت السينمائي الإفريقي يكتشف… لعلّ أبرز ما يمكن استنتاجه أنّ إفريقيا هي قارّة الهامش بامتياز وأنّ الفنّ السينمائي هناك هو فنّ هامشي تنقذه إبداعات واستثناءات أغلبها مدعومة من صناديق دول الشمال، فالعديد من السينمائيين الأفارقة استطاعوا أن يتموقعوا ضمن الخارطة العالمية للفاعلين السينمائيين وهناك أسماء سيحفظها التاريخ مثل جبريل ديوب وعبد الرحمان سيساكو وسليمان سيسي…
إنّ الإرث السينمائي لا يؤكدّ غياب السينمائي الإفريقي، لأنّ الكفاءات السينمائية موجودة غير أنّ الارتباط بالغرب من ناحية والتماهي مع الآخر وغرق السينمائي المحلّي في مشاهد فولكلورية والفقر السينمائي المدقع يجعل من السينما الإفريقية عنوانا للتحدّي. كثيرا ما نشاهد في الأفلام الإفريقية بمختلف أجناسها صورة قاتمة أو صورة فولكلورية قد تفرضها التمويلات الأجنبية التي تجعل من تلك المواضيع الهامشية انبهارا معكوسا تكشف للآخر صورا يعتقد أنها تعود لقرون ماضية… إنّ السينمائي الإفريقي من حقّه اليوم أن يفتخر بأصوله وأن يحاول إنتاج صورة إبداعية خاصة تبتعد عن التهجين المتعمد، باعتبار أنّ الصورة اليوم هي تفاعل حضاري بين مختلف الشعوب ووسيط ثقافي ينقل أفراحنا وأحزاننا في عالم محاصر بالصور. الصورة الإفريقية اليوم هي راهن ورهان، وهي بمثابة نظرة كلها أمل نحو الأفق، ولعلّ هذه المهرجانات التي تحتفي بثقافة الأنا على أرض الآخر هي تبادل وحوار مثل هذا الملتقى السينمائي الذي يجمع بين إفريقيا والمتوسط…
ولعلّ تأسيس مهرجانات إفريقية في سويسرا وألمانيا وإسبانيا وكندا هو تقريب للصورة وتشجيع لسينما إنسانية لا تفرّقها الجغرافيا و لا يجمعها التاريخ. السينما في ظاهرها منافسة لكنها في الواقع نقل لحساسية إنسانية وعالم أصبح اليوم يتكلّم لغة الصورة. هكذا يكون ملتقى هرقلة بمثابة جغرافيا للإبداع والإنسان وبالتالي فضاء للاحتفاء بسينما العالم.