“المجهول المعلوم: حياة وزمن دونالد رامسفيلد”

أمير العمري
يعود المخرج الأمريكي، إيرول مورس، المتخصص في الأفلام الوثائقية، في فيلمه الوثائقي الطويل “المجهول المعلوم: حياة وزمن دونالد رامسفيلد” The Unknown Known: The Life and Times of Donald Rumsfeld لكي يفتح فصلا ثانيا في تاريخ “سياسة العنف الأمريكي” – إذا جاز التعبير. وكان موريس قد بدأ عام 2003 طرق هذا الموضوع الذي يحمل سمات تجمع بين التأريخ، والتوثيق، وتسجيل الشهادة، والتحليل النفسي، والتحليل السياسي- الاجتماعي، للعلاقة بين الشخصية والواقع، وكيف يمكن أن يلعب “الفرد” دورا في التاريخ، وهل يدري أثناء إنغماسه في القيام بدوره أبعاد هذا الدور “التاريخي”، وهو يمارس السياسة من أعلى درجات الحكم في الدولة الأكبر والأقوى في العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية.
كان الفيلم السابق الذي بدأ به موريس التفتيش داخل “عقول” كبار رجال الحكم الأمريكي في فترة تاريخية مشهودة، هو فيلم “ضباب الحرب: 11 درسا من حياة روبرت مكنمارا” (الذي أنتج عام 2003 وحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي عام 2004)، وكان يتوقف فيه أمام شهادة وذكريات ودور روبرت مكنمارا – وزير الدفاع الأمريكي في الفترة من 1961 إلى 1968، تحت رئاسة كل من روبرت كنيدي وليندون جونسون، وهي الفترة التي شهدت تورط أمريكا في حرب فيتنام، واستخدام الكثير من الأسلحة المحرمة دوليا مثل قتابل النابالم، والقصف العشوائي للقرى والمدن الفيتنامية، مما أودى بحياة مئات الآلاف من الفيتناميين. وكان مكنمارا (الذي توفي عام 2009 عن 93 سنة) يعيد تقويم تلك الحرب من خلال منظور نقدي، يتضمن نظرة أكثر وعيا بما يرتكب من اعتداءات فظة على البيئة الطبيعية في العالم.
وكان موريس يهتم في فيلمه هذا أيضا بتقديم صورة متكاملة (بيوجرافية) لحياة مكنمارا وكيف تمكن من الصعود من شخص ينتمي لأسرة متواضعة، إلى أعلى مراكز السلطة، واصبح يتمتع بنفوذ سياسي قوي داخل المؤسسة الأمريكية الحاكمة لسنوات، ويقوم بدور مباشر في إحدى أكبر المغامرات العسكرية في التاريخ الأمريكي، أي مغامرة فيتنام- المأساوية- الفاشلة. وكان عنوان الفيلم “ضباب الحرب” مقتبسا من وصف لأحد أساتذة العلوم العسكرية في العالم وهو كلاوزفيتز الألماني الذي استخدم التعبير في وصف حالة اللا- يقينية التي تنتاب القادة العسكريين أثناء سير العمليات العسكرية، وقد تؤثر بالتالي على قراراتهم.

المخرج إيرول مورس

صعود رامسفيلد
في الفيلم الجديد ينهج موريس نهجا مماثلا، فينتقل بين الخلفية الوثائقية عن شخصية دونالد رامسفيلد وقصة صعوده داخل مؤسسة الحكم الأمريكية، عبر فترة طويلة تبدأ من فضيحة ووترجيت في عهد الرئيس نيكسون، إلى السياسة التي أعلنها الرئيس جورج بوش الإبن وعرفت بـ”الحرب على الإرهاب”. وقد تولى رامسفيلد مناصب سياسية عديدة في مؤسسة الحكم الأمريكية، منذ وقت مبكر في حياته، أولا كعضو في مجلس النواب الأمريكي أربع مرات (من 1962 إلى 1969) ثم أصبح أصغر وزير دفاع في التاريخ الأمريكي في عهد الرئيس جيرالد فورد عام 1975 (وكان يبلغ من العمر 43 عاما)، وعاد في 2001 ليصبح، مجددا، وزير للدفاع وظل في منصبه هذا حتى 2006 عندما اضطر للاستقالة. وشهدت تلك الفترة ما يسمى بالحرب على الإرهاب ودخول القوات الأمريكية إلى أفغانستان، ثم الحرب في العراق في 2003 وسقوط صدام حسين، وما أعقبه مثل انفضاح الممارسات التي كانت تقع داخل سجن أبو غريب، ثم موضوع السجون السرية وعملية نقل المشتبه بهم بالطائرات في رحلات خاصة لكي يتم تعذيبهم واستجوابهم في الخارج.
يتوغل الفيلم في ذاكرة وعقل وأرشيف رامسفيلد، باعتباره أيضا مثل سلفه مكنمارا، من صناع الحروب، ويتوقف أمام فقرات كاملة في مذكراته التي حرص على تدوينها يوميا إبان عمله لمدة خمسين عاما، ويجري معه إيرول موريس مقابلات طويلة من وراء الكاميرا بطريقته المعروفة التي تعتمد على استخدام جهاز معين يجعل الشخص الذي يجري معه الحوار يتحدث وهو ينظر إلى الكاميرا مباشرة، وهو يتركه يتحدث كما يشاء، بينما يجلس المحاور، أي موريس نفسه، في غرفة أخرى (ستديو) يوجه الأسئلة من بعيد ويرى ردود فعل من يتحاور معه من خلال شاشة أخرى أمامه دون أن يراه الطرف الآخر. هذه الطريقة يرى موريس أنها تجعل الشخصية التي يحاورها تتحدث بطريقة أكثر طبيعية، وتعبر عن نفسها بشكل أفضل، وتترك المجال لانفعالاتها تتدفق دون أن تكبحها، والتالي تكشف الكثير مما يمكن أن تكشفه “لغة الجسد”، في حين يبقى المحاور شبحا غامضا باردا لا يرى الطرف الآخر انفعالاته ولا حركات يديه أو وجهه مما يجعله يشعر بالتوتر أحيانا الأمر الذي يؤدي إلى ان تفلت منه معلومات قد لا يسهل الإدلاء بها عادة.

مع صدام

ويمزج الفيلم الذي يقع زمنيا في 96 دقيقة، بين اللقطات الوثائقية النادرة لرامسفيلد في شبابه مرورا بمثوله أمام المحققين بشأن ووترجيت في عهد نيسكون، ودوره إلى جانب الرئيس حورج بوش الإبن فيما بعد هجمات 11 سبتمبر، واجتماعاته المكثفة معه داخل البيت الأبيض، ويكشف عن أنه كان يستدعي أعضاء الكونجرس إلى البيت الأبيض لكي يعرض عليهم ما توصلت إليه أجهزة المخابرات الأمريكية من أدلة على إمتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل. وويتوقف موريس معه أمام ما صرح به في مؤتمر صحفي عن دور العراق وعلاقة صدام حسين بما تعرضت له أمريكا في 11 سبتمبر وهو ما نراه موثقا بالصوت والصورة، وعندما يواجهه موريس بسخف هذا الادعاء وما انكشف من مجافاته للحقيقة ينكر رامسفيلد أنه طرح هذه الفرضية في أي وقت، بينما يكتفي موريس بهذا التصريح المتناقض كما يمكن للمشاهد أن يرى، مع ما سبق أن شاهده للتو على الشاشة.
يتمكن رامسفيلد من الاحتفاظ بهدوئه في معظم المواجهات الذهنية، وعندما يجد أنه لن يستطيع الاجابة عن سؤال معين، يستخدم اللعب بالكلمات لكي ينقل محاوره إلى موضوع آخر.
موريس يواجه رامسفيلد بتناقضاته، ولكنه يواجه خصما عنيدا قويا، حاضر البديهة، يمتلك القدرة على السرد والتحليل بل ويمتلك منهجه الخاص ورؤيته، التي تستند دائما إلى ذلك التبرير الذي يكسبه تعاطفا أي “الدفاع عن أمن البلاد”، وهي وجهة نظر ليس من السهل الاستهانة بها، لكنه يسقط في فخ التبرير عندما يواجهه موريس، على سبيل المثال، بما وقع في سجن أبو غريب في العراق من انتهاكات، وما تعرض له السجناء من تعذيب في جوانتانامو.
إنه أولا يرى في فيتنام “درسا” يمكن التعلم منه.. بل ويعتقد أن مسرحيات شكسبير هي أفضل دروس لأي رجل يعمل بالسياسة لأنها مسرحيات “سياسية” تدور حول فكرة السلطة والصراع على السلطة وعلى إمتلاك القوة عموما، وهنا لا يصبح- من وجهة نظره- هناك وزن كبير للاعتبارات التي يتعاطف معها  البعض منا، فما تتصور أنك تعرفه ليس سوى وهم كبير، “فأنت لا تعرف بل تعتقد أنك تعرف”- بنص كلمات رامسفيلد!
يتوقف الفيلم أمام ذكريات رامسفيلد عن فترة عمله مع الرئيس فورد، الذي يرى أنه كان رئيسا ضعيفا، ونشاهد لقطات لمحاولة اغتيال فورد عام 1975 باطلاق النار عليه، وكيف قرر رامسفيلد فيما بعد أن يترشح كنائب لفورد في حملته للرئاسة، لكن فورد فشل في الوصول للبيت الأبيض. ويتوقف الفيلم أيضا أمام دوره في الاطاحة بالاتحاد السوفيتي، ثم كمبعوث أمريكا إلى الشرق الأوسط بقرار من الرئيس ريجان، وزيارته الشهيرة إلى بغداد في ديسمبر 1983 ولقائه مع صدام حسين، الذي يصفه بالتفصيل في الفيلم، ويصف كيف كان صدام يؤمن بقوته وبالصورة التي صنعها وروجها لنفسه، لكنه يقول إن المقابلة الأكثر عملية وفعالية كانت مع طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء، وإنه لم يفهم أبدا كيف أن رجلا عاقلا مثل عزيز قبل العمل تحت صدام.

المجهول والمعلوم
يستخدم المخرج ساحة لونية تبدو سيريالية حيث يغمرها الضوء على خلفية موسيقى البيانو الناعمة الغامضة التي تمهد للانتقال إلى صفحات أخرى من مذكرات رامسفيلد، هذه المرة ما يتعلق منها بالتعامل مع مقاتلي طالبان في تورا بورا، ويقول إن الرأي السائد داخل الادارة الأمريكية أن المقاتلين الذين يقعون في الأسر ليس من الممكن معاملتهم كأسرى حرب، وأن معاهدة جنيف لا تنطبق عليهم، وينفي، رغم ذلك، ما تردد عن تعرضهم للتعذيب على الأراضي الأمريكية أو بأياد أمريكية، ولكنه يستبعد فكرة أنه قد يكون بينهم أبرياء، إستنادا إلى أن “عدم وجود دليل ليس دليلا على إنعدام الجريمة ” ويرى أن التحفظ على المشتبه فيهم مبرر في اطار الشك بأن هناك أي احتمال لتعريض أرواح أمريكيين للخطر!
ويتوقف الفيلم طويلا أمام فضيحة سجن أبو غريب التي أدت إلى تقديم رامسفيلد استقالته التي رفضها الرئيس بوش الإبن، وإن كان يعتقد كما يقول في الفيلم، أنه في مثل هذه الحروب والنزاعات تقع أحيانا تجاوزات، وإن كان يصر على أنه لم يتوانى أبدا عن التحقيق في كل حادثة تجاوز وعقاب المسؤولين عنها.

استقال رامسفيلد استقالته الثانية التي قبلت عام 2006، واعتزل العمل السياسي ولكنه يرى- وهو ما يعبر عنه بشكل مباشر في الفيلم- أن الرئيس أوباما الذي كان قبل انتخابه، يناهض وجود معتقلين في جونتانامو، ويعارض استخدام القوة والتدخل الخارجي والكثير من الأمور، عاد بعد انتخابه لكي يواصل نفس سياسات سلفه التي كان ينتقدها. وقد صدق رامسفيلد في هذا بلا شك!
رامسفيلد، الذي أطلق على مذكراته “المجهول والمعلوم”، من هواة التلاعب باللغة وباستخداماتها المتعددة، وهي مسألة يتوقف أمامها موريس طويلا للتوصل إلى ما يمكن أن تكشفه عن الحالة النفسية لهذا الرجل، متسائلا عن مغزى العنوان. وهنا يقول له رامسفيلد إن هناك ثلاثة افتراضات: هناك “المعلوم المعلوم”، وهو ما نعلمه عن يقين، وهناك “المعلوم المجهول” وهو ما نعلم أننا لا نعلمه”، وأخيرا هناك “المجهول المجهول” وهو ما لا نعرف أننا لا نعرفه. وكان رامسفيلد قد ردد تعبيرات مشابهة خلال مؤتمر صحفي شهير عام 2002 في معرض تبريره لسياسات الرئيس بوش.
إيرول موريس يحاوره في الفيلم محاولا إقناعه بأنه قد تكون هناك أيضا فرضية رابعة غابت عنه وهي “المجهول المعلوم” (العنوان الذي يتخذه موريس لفيلمه لفيلمه هذا).. ويشرحه بالقول إنه “ما نعتقد أننا نعرفه في حين أننا لا نعرفه”، أو ما نعرفه لكننا لا ندرك أننا نعرفه.
غير أن رامسفيلد يقول له ببساطة: “أعتقد أنك تطارد الأرنب الخطأ هنا”!
وينتهي هذا الفيلم الممتع الذي يضيف إلى مسيرة مخرجه المتميز في مجال السينما الوثائقية.


إعلان