مأسآة عائلة شرقية مهاجرة
أربعة وعشرون طعنة سكين تلقتها “بهار” من زوجها التركي، قادت الى مصرعها في بيتها، في عام 2011، في حادثة استأثرت على اهتمام الصحف المحلية في الجزء الجنوبي من هولندا، حيث يعيش الزوجان. نَقلت الصحف وقتها، إن الزوج، الذي هدد زوجته الشابة بالقتل إذا أقدمت على هجره، نفذ تهديده في مساء شتوي ماطر، على مرأى من طفليهما، الذين شهدا الحادثة بكل تفاصيلها المروعة، وكانا الى جوار أمهما في لحظاتها الأخيرة. الصحف الهولندية المحلية نفسها، عادت وكتبت بعد أشهر عن المحاكمة، وعقوبة السجن المؤبد التي نالها الزوج. القصة لم تنته إعلامياً، فبعد عامين من الحادثة، وبعد أن عرض في عدة مهرجانات سينمائية، منها مهرجان أفلام حقوق الإنسان في مدينة لاهاي الهولندية، وصل الفيلم التسجيلي عن الشابة الهولندية من الإصول التركية، والذي حمل عنوانه إسمها، الى الشاشات التلفزيونية الهولندية. الفيلم، لا يسعى لفك ألغاز الجريمة فقط، بل أيضا لسِبِّر أغوار المجتمع الذي خَرَجت منه “بهار”، وكيف قادت مجموعة من العادات الإجتماعية والإختيارات السيئة الى نهاية مبكرة لفتاة ذكية، تنتمي الى الجيل الثاني لمهاجرين من الشرق الأوسط الى هولندا.
حتى بعد عامين من الحادثة، لايزال الحزن والذهول يهيميان على حياة عائلة بهار، وأقرباءها من الأتراك المهاجرين. هناك أسباب أخرى للحزن، فالعائلة، تواجه منذ مقتل الإبنة، مآساة أخرى، هي بعدها عن حفيديها، أبناء بهار، والذي قامت الحكومة الهولندية بوضعهم، وبعد مقتل الأم وسجن الأب، في رعاية عائلة تركية تعيش في هولندا، حتى تقوم جهات مختصة بتقرير مصير الجهة التي تقوم برعاية الأطفال. المخرجة تسمح لدقائق قليلة، بأن يتحول الفيلم لمنصة لعرض شكوى العائلة في هذه التفصيلة بالذات، لكنه سرعان ما يعود الى مساره الفنيّ الخاص، الذي يحاول أن يثير، عبر هذه الفاجعة الإنسانية المؤثرة، أسئلة عامة عن الهوية والإندماج والدين والتديّن لمهاجرين مسلمين للقارة الاوربية.

“عاشت بهار في هذه الغرفة لخمس سنوات” يَهمس والد الشابة التركية المقتولة للمخرجة الهولندية، في واحد من المشاهد الإفتتاحية الأولى للفيلم التسجيلي. الغرفة تلك تحولت لمتحف للحزن، علقت على جدرانها صور لبهار من فترات مختلفة من حياتها، نسخ الصحف التي كتبت عن الحادثة، سريرها، ومتعلقاتها. تكشف أم بهار بأنها تنام أحياناً في غرفة إبنتها الوحيدة، تجد فيها كثير من الراحة كما تصف، لكن ما إن يحل النهار، حتى تنطلق الأحزان مجدداً. وجدت العائلة في أغراض إبنتهم، دفتر يوميات صغير، سجلت فيه مشاعرها، والتي يُغلب عليها العاطفية والتَمرد. الفيلم سينقل الكثير من دفتر اليوميات ذلك، وخاصة من الفترة التي قابلت فيه بهار “محمد” ، الشاب التركي الذي وصل بطريقة غير شرعية الى هولندا ليعمل سراً بتجارة المخدرات، وصادف ان يسكن قريباً من بيت بهار، وسيحاول لأشهر أن يلفت إنتباه الفتاة المراهقة، لتقع في حبه، ثم الزواج منه، رغم رفض عائلتها العنيف.
ما بدا إنه بوتريت لعائلة مثكولة، سيتسع ليتناول جوانب متعددة من علاقة المهاجرين المسلمين القادمين من الشرق الأوسط مع أوطانهم الجديدة، فعائلة بهار، والتي كانت تفرض قيود مشددة على حرية إبنتهم المراهقة، دفعت الثمن، عندما تمردت تلك الإبنة وتزوجت المهاجر الغير شرعي بدون موافقة أهلها. عائلة بهار نفسها، المسلمة، لكن غير المتشددة في فهمها وتطبيقها للأسلام، تخشى أن تؤثر العائلة التركية المتطرفة التي تستضيف أحفادها، في تغيير طباعهم، فالفيلم ينقل مثلاً، إن العائلة التركية تلك تريد تغيير أسماء الأطفال، واستبدالها بأسماء لشخصيات من التاريخ الإسلامي. هناك عديد من التفاصيل والإشارات الواضحة والمبطنة في الفيلم، عن إشكاليات علاقات مهاجرين من كل الأجيال مع أوطانهم الجديدة، فبهار دُفِنت في تركيا، رغم أن عائلتها وأقاربها وأبناءها يعيشون في هولندا، ولا يخططون للعودة إلى البلد الأم قريبا. موضوعة الدفن، هي واحدة من الموضوعات الحساسّة في مجتمع المهاجرين، فالعديد منهم يصر أن يدفن أفراد عائلته في الأوطان الاصلية، في فِعل، يبدو كانفصال روحي نهائي عن حياتهم في أوطانهم الجديدة.
تمزج المخرجة الهولندية كارين خويرس بين أسلوبين، يتضمن الأول مقابلات مباشرة ومشاهد توثيقية صامتة، تسجل خواء ما بعد الفجيعة للعائلة، وآخر غَلُب عليه الشاعريّة، تقترب أجواء مشاهده من السريالية والكولاج البصري المتعدد المرجعيات، يقود هذه المشاهد صوت إمرأة، ستقرأ بالهولندي، مقاطع من يوميات بهار، وما نقل عنها، كالكلمات الأخيرة التي وجهتها لإبنتها بعد إعتداء الزوج عليها. يشبه الفيلم، الحركة المنتظمة لإرجوحة متحركة، هي تقترب حد الألم من أوجاع العائلة المثكولة بفقدان الإبنة، ثم تعود لتبتعد، مُحلقة في أجواء حلميّة بعيدة، باحثة هناك عن سكينة وذكرى صافية للفتاة التي رحلت. هذا الجزء من الفيلم سيضم مشاهد لافتة، كتلك التي صورت من زاوية غريبة لقبر بهار في تركيا، او التي استعانت بأرشيف السينما التركية العاطفية من سبعينات القرن الماضي، وخصوصا تلك المشاهد الصامتة لبطلات أفلام تركيات هائمات على وجوهن في مدن مزدحمة وأحيانا غابات، يعانين، ولأسباب مختلفة من المجتمع وهجر الأحبة. تراجيديا قصة بهار ستقترب من القصص الخيالية لتلك الأفلام، فهي تكتب في دفتر يومياتها عبارة “إذا كان الحُب يُعَّد خطيئة، فأنا إذن مُذنبة”، والتي تبدو كأنها منتزعة من واحد من تلك الأفلام.