وثائقي يحذر من “موت” الروح الرياضية..
كرة القدم في قبضة مافيا المراهنات
قيس قاسم
اتفق مخرجو الوثائقي “المراهنات” بنجامين بيست، هيرفي مارتن دلبيير وأوفه شفيرنغ، على أن تكون نقطة انطلاق فيلمهم من ملعب فولهايد ـ بارك المحلي في برلين، لما فيه من مقاربة تصلح لأن تكون مثالاً عما ينبغي أن تكون عليه لعبة كرة القدم: ناديان يلعبان ضمن دوري ما دون سن ال19 وشباب يتمتعون بروح رياضية ولياقة جسمانية، يتحركون وسطه، فيما يشاهدهم عدد قليل من الناس لم يتجاوز في ذلك اليوم المشمس من عام 2013 خمسين متفرجا.. لكن أصحاب الوثائقي عكروا صفو الصورة المثالية هذه حين انتقلوا بنا فجأة، إلى سنغافورة لنكتشف أن نفس المباريات قد أدخلت ضمن مراهنات ذلك الأسبوع وراهن على نتيجتها آلاف من المقامرين بمبالغ تجاوزت قيمتها عشرات الملايين من اليوروات! هل يعقل هذا؟
للغور في عمق المشكلة “الخفية” قابل الوثائقي في سنغافورة أحد قادة مافيا المراهنات الآسيوية، واسمه سيفاكومار ماداسامي، الذي سبق وأن حكم عليه بجرائم التلاعب في نتائج المباريات والغش في المراهنات، وأخبرهم بأن ما ورد من معلومات صحيح جداً وأن التوجه لإدراج بعض مباريات الدوري البسيط لغير المحترفين في أوربا، وغيرها من دول العالم، ضمن قائمة الفرق المتراهن على نتائجها جزء من عملية الغش التي تشرف عليها مافيات دولية وعصابات منظمة، وهي من تدر الربح عليهم لأسباب كثيرة منها: قدرتهم على التحكم بنتائجها عبر رشوة اللاعبين الصغار واستغلال جهلهم بالغايات البعيدة، وضعف إمكانية أجهزة الشرطة والاتحادات الرياضية على ملاحقتها لعدم بثها تلفزيونياً أو حتى تسجيلها بالفيديو، كما أن الرهان عليها يرفع من احتمالات الربح مئات المرات، لأن نسبتها قد تتصاعد بشكل كبير جداً بالمقارنة مع مباريات دوري المحترفين حيث النتائج شبه متقاربة ولا مفاجآت كثيرة فيها. في المقابل وفي ملعب فولهايد ـ بارك أصيب مدرب أحد الناديين بصدمة حين نُقل له ما يترتب على مباراة فريقه في الطرف البعيد من العالم فما كان منه إلا أن وصف مجرياته ب”الجنون”.

ما يعتبره مدرب ناد كروي، لاعبوه دون سن ال 19عاماً، جنوناً يعتبره رجال الشرطة جريمة خطيرة ويمثل لمحبي الكرة تدميراً لروحها السامية. زوايا النظر، كلها، تُكمل صورة الواقع الذي يهدد رياضة كرة القدم، ومن جهات عدة بينها ما هو خارجي وآخر داخلي يتعلق بنموها كرياضة صارت في العقود الأخيرة تنحو نحو الربح، والخارجية لها صلة بالمافيات التي تريد استثمار شعبيتها والأموال التي تأتي إليها من الجمهور ومن الإعلانات ومن الاستثمارات الربحية، وهذا ما اتضح خلال تحري فيلم “المراهنات”، الذي راح يمضي في الغوص أعمق في المشكلة، حين جمع حقائق متوفرة لدى أجهزة الشرطة الألمانية وأظهرت ان الكثير من الألمان تورطوا في جرائم المراهنات، وهي ليست حصراً على عصابات من خارجها ووفق ما سجلته أجهزة تنصتها هناك ما لا يقل عن 700 مباراة محلية قد تم ترتيب نتائجها من قبل رجال يعملون لصالح مافيات منظمة، وأن التلاعب وشراء النتائج كوسيلة مضمونة لرفع أرباح المتراهنين الذي يعرفون نتيجتها مسبقاً، بطرق جهنمية حين ركزوا على مباريات ليست ذات قيمة ونتائجها لا تُغير ترتيب فرق الدوري، كثيراً، لكنها بالنسبة للمافيات كنز كما رصدها الوثائقي عبر مباراة جرت بين ناديين في أسفل دوري بطولة أوربا، واتضح أن حارس مرمى أحدها قد تم رشوته، كي يضمن دخول أكثر من أربعة أهداف في مرماه خلال الشوط الأول. هذه المباراة لوحدها رفعت حجم المراهنات في بعض الدول الآسيوية الى ملايين الدولارات.
يطرح الوثائقي سؤالاً على رجال الشرطة ومسؤولي اتحادات كروية أوربية حول الطرق التي تتبعها المافيات للاتقاق مع بعض اللاعبين ليضمنوا من خلالهم نتائج أكيدة يدرجونها في ألعاب الرهانات اليومية؟ واحدة من الأشياء المثيرة التي تضمنتها إجابة محققين رسميين أن المافيات تريد رشوة لاعبين كبار من الدوري “الدرجة الأولى” أو من الذين يلعبون ضمن تصفيات الدوري الأوربي، لكن ذلك يكلفها كثيراً فرشوة لاعب كبير قد تصل الى نصف مليون يورو في حين ينخفض هذا الرقم الى العشر في حالة لاعبين أقل شهرة، ولكن كمبدأ فإن السعي لشراء ذمم اللاعبين يبقى قائماً، ويذهب الوثائقي للبرهنة على هذا السلوك لملاحقة فضيحة حارس مرمى أحد الأندية الايطالية الذي ظهر أن المافيات قد استغلت وضعه الاقتصادي وعلاقاته الجنسية خارج المؤسسة الزوجية للضغط عليه لقبول عرضهم.إن الوسائل المتبعة فيإاسقاط اللاعبين تشبه الى حد كبير اسقاط الجواسيس وأجهزة المخابرات للسياسيين من خصومهم. ولكن يبقى السؤال لماذا يقبل البعض بهذا السلوك الذي يهدد مستقبلهم الكروي ويهدم حياتهم؟ هذة المرة يعود الوثائقي الى تحليل نفسي واجتماعي لمحترفي كرة القدم، وحاجتهم الماسة والمستمرة للمال ارتباطاً بالتحول الذي طرأ على طبيعة اللعبة نفسها. لم يكن اللاعب قبل نصف قرن يتقاضى أجراً كما يتقاضاه لاعب اليوم، ما جعل منهم شباباً أغنياء يصرفون المال على حفلات صاخبة، يراهنون بمبالغ كبيرة، يشترون الجنس وكل ما يجلب لهم المتعة الجسدية، ولهذا قد لا تكفي رواتبهم، بالرغم من ارتفاعها الجنوني، من سد مصروفاتهم، فيقبل بعضهم بعروض سريعة لا تكلفهم سوى تلاعب غير ملحوظ في مبارة ما. من المعضلات التي تواجه القضاء في حالة ادانة اللاعب بالغش، ان أحكامها لا تتجاوز الغرامات المالية بإعتبار اللاعب ليس المجرم الرئيس وغالباً هو لا يراهن بنفسه على النتائج، بل فقط يساعد على التنفيذ لهذا يجد رجال المافيا في هذة الثغرة ما يشجعهم على مفاتحة اللاعبين في كل مكان.

تتشكل مافيات “المراهنات” الكروية وفق هيكيلية معقدة تتوزع فروعها بين دول كثيرة، كل مجموعة ترتبط بأخرى وتدار برؤوس مركزية قليلة العدد، تتمتع بقدرات مالية هائلة لهذا يعترف رجال الشرطة بعجزهم عن السيطرة عليها بخاصة وأن أكثر تلاعباتها تتم عبر شبكة الأنترنيت ما يجعل مراقبتهم عسيرة مع أن دولاً كثيرة جربت تطبيق أنظمة حماية دقيقة للحد من جرائم المراهنات الرياضية، كبريطانيا التي استحدثت نظام “سبورترادار” لكنهم يعترفون هم أيضاً بعجزهم عن السيطرة الكاملة على نشاط المافيات الكوني الطابع الممتد من أمريكا اللاتينية مرورا بمانيلا وهونغ كونغ وصولاً الى دول البلقان وتستخدم فيه كل يوم أساليب متجددة للغش وشراء النتائج آخرها كانت فضيحة تسميم لاعبي أحد الأندية بكميات محدودة من الحبوب المنومة لإضعاف قوة تركيزهم داخل الملعب الى جانب شراء بعض حكام المباريات، وكل هذا يجعل كرة القدم وروحها الطرف الأكثر تضرراً من جرائم “المراهنات” وتحولها من رياضة ممتعة الى وسيلة لإرتكاب جرائم مادية وأخلاقية، ولهذا تطالب اتحادات كثيرة بإلغاء مكاتب المراهنات أو مراقبتها بشكل فعلي وتفعيل ملاحقة المجرمين على شبكة “الأنترنيت”. لقد أضحى كما توصل الوثائقي الممتع والمدهش، العمل من أجل حماية كرة القدم من مافيات المراهنات مطلباً له علاقة بمستقبلها الذي ينبغي حمايته عبر شعار رفعه الوثائقي في نهايته:”كرة القدم أوالمراهنات عليها”!.