رحلة السينما العربية: من مرسيليا.. إلى طنجة وتطوان

أحمد بوغابة / المغرب

سبق أن وقَّعنا تغطية سينمائية في موقع الجزيرة الوثائقية، شهر يونيو الماضي (2013)، تناولت أول دورة للملتقى الدولي للسينمات العربية التي احتضنتها المدينة الفرنسية مرسيليا (جنوب فرنسا) ومن تنظيم وتأطير الجمعية الفرنسية “أفلام” (لقد اختارت الجمعية إسما بالعربية وتكتبه بالفرنسية: Aflam لتبقى في روح اهتمامها بالثقافة العربية). تعمل هذه الجمعية منذ أكثر من عقد كامل على ترويج السينمات العربية والتعريف بها في جهة الجنوب الفرنسي بأكملها، والتي راكمت رصيدا فيها حيث أصبحت مرجعا في فرنسا يستأنس به كل من يدق باب هذه السينمات خاصة وأن الجمهور الفرنسي، وغيره من الأوروبيين، لم يكن له إطلاع إلا على بعض الأفلام المغاربية واللبنانية ويعتقد السينما المصرية كلها تدور حول الرقص الشرقي ويجهلون أفلاما من سوريا والعراق والخليج والسودان والأردن.
وبعد هذا التراكم في التجربة الملموسة الميدانية على أرض الواقع في علاقة بجمهورها الذي تزايد مع السنين، كمنخرطين دائمين بالجمعية أو كجمهور الذي يجمع مختلف الجنسيات ومن أصول متعددة، كان من الطبيعي أن ترفع “جمعية أفلام” من سقف عملها ونشاطها بتنظيم تظاهرة كملتقى سنوي يتوج أنشطتها على امتداد السنة (فهي تنشط طيلة السنة بعرض أفلام في عروضها الأولى أو محاور حول أقطار بذاتها أو سينمائي متميز أو موضوع يمثل مختلف الأقطار في اختلافها وتنوعها، ولا تقتصر على نشاط واحد سنوي وكفى شر المؤمنين، إنها تؤمن بالعمل المستمر والدائم والطويل الأمد حتى يستأنس به المحيط العام والخاص والرسمي، ونقصد دائما الفيلم العربي طبعا فهي لا تخرج عن هذا التخصص الواضح في أدبياتها)
وفي إطار هذه الرؤية الواضحة والمسؤولة نظمت أول دورة للملتقى في الصيف الماضي (من 28 مايو إلى 2 يونيو 2013) ونجحت في رهانها عند الخطوة الأولى رغم كل المشاكل والعراقيل التي يمكن تصورها. ليس من السهل الاشتغال على سينمات تنتمي ل”عالم” يتكون من “أقطار” متباينة كثيرا في كل المجالات بما فيها السينما. وأن تتم برمجة استثنائية تمس خريطة جغرافية تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي تتباين فيها الرؤى الفنية وتاريخ الإنتاج في فنون السينما.
لم يكن هدف جمعية “أفلام” من تظاهراتها أن تكون رقما إضافيا فقط لباقي المهرجانات أو مناسبة أخرى للمنافسة وتوزيع الجوائز بادعاء الاحتفال بالسينمات العربية والدفاع عنها بقدر ما استغنت عن كل ما هو كلاسيكي في التنظيم السهل لتجعل منها – أي التظاهرة – ملتقى سينمائي حقيقي يركز كل اهتمامه على السينما والأفلام من خلال البحث عن خصوصيات هذه السينمات وأين تتجلى في الملموس البصري والفكري فضلا عن أسئلة أخرى متعددة ساهم فيها الباحثون  المتخصصون إلى جانب السينمائيين المحترفين من أجيال وحساسيات متباينة لإغناء البحث والأجوبة حتى يتم تجاوز ما هو جاهز أو كان مُسَلَّم به سابقا وبمشاركة الجمهور المهتم وكذا الأطفال أيضا. فقد كانت هذه التظاهرة بمثابة ملتقى بالمعنى الصحيح للكلمة حول السينما بانفتاحه وجديته في آن واحد. وقد تجلى ذلك في التوزيع الشامل للعروض والأنشطة التي لم تبق حبيسة القاعات والفضاءات الراقية وإنما ذهبت كذلك إلى الأحياء الشعبية والهامشية أو المُهَمَّشَة، وإلى السجون والمستشفيات، ورحبت بالجمعيات المدنية لتكون فاعلة بمشاركاتها بفضل أعضائها والمنتسبين إليها. وما ذكرته من معطيات إخبارية ليس مبالغة ذاتية أو من وحي الخيال لأنه مسجل بالصوت والصورة والكتابة الصحفية نظرا لما سبق قوله أعلاه وأيضا إلى الأفلام المختارة التي تم برمجتها حيث اكتشف الجمهور جيلا جديدا من السينمائيين العرب الشباب بأفلام روائية طويلة وقصيرة ووثائقية تحمل نظرة عميقة في التناول الجمالي للسينما وبأفكار ناضجة، سينما جميلة بجماليتها وواعية بأفكارها، سينما لا تفصل الشكل عن المضمون ولا تختفي وراء أحدهما لتبرير تعثر البناء، أمثلة كثيرة حضرت في الملتقى الأول نذكر منها فوزي بن السعيدي وهالة العبد الله وجميلة الصحراوي ونوري بوزيد وابراهيم فريطح وأريسا صنصور وبسام شخيص وسهيم خليفة ونواف الجناحي وغيرهم كُثُر، فقد تجاوز عددهم 45 سينمائيا، دون ذكر عدد النقاد الفرنسيين والعرب، الذين حضروا وساهموا وأبدعوا في إنجاح الخطوة الأولى التي ستليها الخطوة الثانية في شهر أبريل المقبل (من 8 إلى 13 أبريل 2014). وهذا التغيير في الزمن هو نتيجة التداول الديمقراطي بين إدارة الجمعية وأعضائها والمنخرطين، وجميع المؤسسات التي يرتبط بها الملتقى، حتى يجد الجميع الزمن المناسب لإنجاح الملتقى نجاحا منتظرا، بدون شك، لكي يكون أفضل من سابقه.

ومن الخطوات المميزة التي سطرها “ملتقى السينمات العربية بمرسيليا”، ولم تسبقه مهرجانات أخرى إليه، هو أنه لم يرض لنفسه أن يكون محصورا في المدينة التي تحتضنه فقط (وهي مرسيليا) ويجمع حوله سنويا بعض الأفلام ومخرجيها ثم ينفض الجمع وهكذا دواليك بل اختار أن يسافر بأفلامه العربية التي يبرمجها في الملتقى نحو الأقطار العربية للقاء بالجمهور العربي في عين البلد صحبة المخرجين حتى يتم التداول الصحي للعلاقة الطبيعة للسينمات العربية مع جماهيرها. لا يريد هذا الملتقى، الذي يديره الزميل الناقد التونسي الطاهر الشيخاوي، أن يستسهل مهمته أو يعتبرها مجرد نشاط بل مهمة ثقافية تتطلب العمل والاجتهاد لتحقيق نتائج إيجابية حتى ولو كانت تبدو بعيدة المنال لكن ينبغي وضع الخطوة الأولى في مسيرة ألف ميل. أن يقتنع جميع المخرجين مع الناقد الطاهر الشيخاوي، المدير الفني للملتقى، ويلتزم معه الكل بالاستعداد المطلق للانتقال بأفلامهم إلى مختلف الأقطار العربية لعرضها والتعريف بها في القاعات السينمائية وليس خارجها، وبموازاة ذلك إيجاد لها منافذ للتسويق في ربوع الأقطار كحق ثقافي للجماهير على امتداد الخريطة العربية وليس الاكتفاء فقط بالمهرجانات ثم قتلها بعد ذلك على القنوات التلفزيونية.وهذه الفكرة تحررت من كونها كذلك بتحويلها إلى واقع بترجمتها حاليا في المغرب من خلال الشراكة التي جمعت الملتقى مع الخزانة السينمائية بطنجة وجمعية أصدقاء السينما بتطوان.
وتُعد الخزانة السينمائية بطنجة الفضاء الوحيد والاستثنائي بالمغرب المتميز في مجال فنون الثقافة السينمائية وبدون منازع. إن سكان مدينة طنجة ونواحيها محظوظون بهذا الفضاء الذي يجد فيه الجميع رغباته السينمائية من الأطفال والشباب والكهول والشيوخ بغنى برامجها اليومية المتنوعة وما تتوفر عليه من مراجع وأرشيف لا مثيل له في المغرب إطلاقا. كتبنا، وكتب غيرنا مرارا وكثيرا عن هذه التحفة التي يحج إليها كل عاشق فعلي للسينما.
أما جمعية أصدقاء السينما بتطوان فتاريخها يشهد بما قدمته للسينما ليس في المغرب وحده بل أيضا في حوض المتوسط بتنظيمها لواحد من أقدم المهرجانات السينمائية بالمغرب. وتصدر مجلة “وشمة” مع تنظيمها لأنشطة مع الطلبة وخاصة التلاميذ بمدبنة تطوان. وبالتالي، فطبيعي أن تلتقي هذه الإرادات الفعالة والفاعلة للاشتغال معا حول مشروع فكري جماعي يتقاسم الجميع أدبياته وتتبنى بُعده الاستراتيجي في خدمة السينمات العربية.
نقل “ملتقى السينمات العربية بمرسيليا” جزء من برنامجه إلى طنجة وتطوان لترجمة ما سبق ذكره بما أنه وجد أرضية خصبة ومستعدة للالتزام بالدفاع عن الفيلم العربي في الضفة الجنوبية الحاملة لجزء من الخريطة العربية. وبذلك وجد الملتقى عُمقا استراتيجيا طبيعيا ومؤهلا بمؤهلاته الاحترافية ووعيه السينمائي.
نقل الملتقى أفلاما ترسم جزء من الصورة العامة للسينما العربية لتنتقل بين مدينتي تطوان وطنجة خلال خمسة أيام، من 15 إلى 19 يناير الجاري وهي: “مشوار” للمخرج السوري ميار الرومي (2012- 75 دقيقة)، و”ظل البحر” للمخرج الإماراتي نواف الجناحي (2011- 97 دقيقة)، و”أرض البطال” للمخرج العراقي سهيم عمر خليفة (2013- 17 دقيقة)، و”الأعماق” للمخرج التونسي يوسف الشابي (2013، 27 دقيقة)، وأيضا “هُنَّ حاضرات” للمخرج الفرنسي ريجيس سودير (2012- 94 دقيقة) وهو فيلم وثائقي يناقش المهمشين في مستشفى/السجن حيث العرب من الرواد الأساسيين.
وستحتضن مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، في إطار هذه التظاهرة، يوم الجمعة 17 يناير في الساعة الخامسة بعد الزوال مائدة مستديرة يحضرها جميع المخرجين المدعوين وبعض الموزعين وأرباب القاعات السينمائية بالمغرب حول موضوع “توزيع الفيلم العربي وترويجه في الأقطار العربية” بينما العروض السينمائية في المعهد الفرنسي للمدينة الذي فتح أبوابه لدعم هذا النشاط السينمائي الغني بمحتواه.
وسينتقل “الملتقى” أيضا في أفق قريب ضمن نفس النفس إلى الجزائر وتونس ومصر ولبنان وربما أقطار أخرى في المستقبل وبذلك يكون “الملتقى” قد حقق مبتغاه قبل سنة واحدة من دورته الثانية.


إعلان