نقد سينمائي شعبي!
محمد موسى
يُشَّكل البرنامج الإذاعي البريطاني الاسبوعي “نقد أفلام كيرمود ومايو” ظاهرة لافتة في الصحافة السينمائية الجديّة، وبالخصوص الشَّق النقدي منها، وعلاقة هذه مع الجمهور الواسع. ففي الوقت الذي تُصارِّع معظم مجلات السينما العالمية العريقة للبقاء، وسط مَشهد مُتَّلبد غير واضح المعالم، يتجه بسرعة وحزم للتخليّ عن هويات ومنافذ الأعلام “القديم”، والتحول الى آخر جديد يَّطل عبر شبكة الإنترنيت فقط، حتى قبل أن يكتمل بَّعد نموذج إقتصادي مُستقل، لنشوء وإستمرار مؤسسات صحفية على منصة هذا الإعلام “الجديد”، وفي الزمن الذي مازال التلفزيون يَتَعثَّر في بحثه لإيجاد مُقاربات ناجحة لتقديم برامج السينما عبر الشاشة الصغيرة، وإقتصار الموجود على برامج بهيكليات سطحية مُكررة، وأخرى فشلت في الإستحواذ على إنتباه جمهور واسع لمادتها السينمائية المُتخصصة.

وسط هذه الصورة القاتمة يواصل البرنامج الإذاعي البريطاني نجاحاته الكبيرة في جذب جمهور جديد، ليس فقط في بريطانيا، حيث يبث عبر المحطة الخامسة لهيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي)، لكنه وجد في الإنترنيت، الوسيط الأمثل لكي يَصل الى جمهور كبير حول العالم.
نجاح البرنامج الإذاعي البريطاني يسير عكس السائد لجهة علاقة السينما وصحافتها ونقدها بالوسائط الإعلامية التي تصل عبرها، فعلاقة الراديو بالسينما، ليست شائعة لإختلاف لغة الوسيطين، فالراديو يقف عاجزاً عن نقل جوهر الفن السابع، وهو الصورة، فيُرغم على إختيار مقاطع أفلام بحوارات عندما يرغب ببث مشاهد من أفلام ،كما لا يمكن لهذا البرنامج بالتحديد (ولأنه يتوجه أساساً للمُستمع البريطاني)، تقديم حوارات من أفلام بلغات غير الإنكليزية. يَّعي برنامج ” نقد أفلام كيرمود ومايو ” هذه المُحددات التي تواجه تقديم السينما عبر الراديو، لذلك يتجه جهد مقديمه للبحث عن وسائل اخرى لتقديم مادته السينمائية الصحفية، منها تكثيف مادته النصيّة، وتطويعها لتكون مناسبة للبث الإذاعي، وبدون الرتوش والتنميط التي تحيط بتقديم كثير من برامج السينما التلفزيونية مثلاً، كغنج المذيعات الحسناوات ،والإحتفاء الزائد بالنجوم، ولقاءات البساط الأحمر التافهه.
رغم النجاح العالمي للبرنامج البريطاني في السنوات الأخيرة (كما تشير أرقام الإستماع له عبر خدمة “بودكاست” مثلاً)، إلا إنه مازال متمسك بهويته البريطانية، فهو يتوجه بالأساس الى البريطانيين، ومادته التحريرية ترتكز على برامج عروض الأفلام في الصالات السينمائية في بريطانيا، ونادراً جداً ما يخرج من حدود الجزيرة البريطانية ليناقش قضايا سينمائية من بلدان إخرى. وحتى التغطيات التي كان يقدمها من مهرجانات سينمائية من اوربا توقفت في الأعوام الخمس الأخيرة، لتحل بدل عنها، متابعات لمهرجانات سينمائية من بريطانيا نفسها. حَصِّر البرنامج السينمائي مادته بما يُعرض في بريطانيا، لم يَّكن عقبة حقيقية في عبوره حدود الجزيرة البريطانية. في حين أثبتت تركيبة البرنامج إنها السبب في نجاحه المتواصل في بريطانيا. فهو وعلى خلاف كثير من البرامج السينمائية او التغطيات الصحفية من دول اخرى، ومنها الدول العربية، مَعنيّ بمشهد سينمائي في بلد مُحدد جغرافياً، يتناول الأفلام التي تعرض في صالاته التجارية او الفنيّة، لا يفرق كثيراً بين الأفلام الهوليوودية التي تعرض في عشرات الصالات، او الأفلام الصغيرة التي تعرض لجمهور يتركز في المدن الكبرى فقط.

يَتَقَسَّم وقت البرامج الى عدد من الفقرات الثابتة، تبدأ بقراءة نقدية سريعة للأفلام التي حققت المراتب العشر في الإيرادات في بريطانيا، يعقبها لقاءات يجريها مقدما البرنامج مع مخرجين ونجوم للحديث عن أفلامهم المعروضة وقت بث البرنامج، ثم تبدأ قراءات الناقد مارك كيرمود النقدية لعدد من الأفلام الجديدة التي بدأت او سيبدأ عرضها قريباً.يوليّ البرنامج أحيانا إهتماماً بإصدارات إسطوانات “دي في دي “، ويُرشح أفلاماً للمشاهدة، من التي تعرضها القنوات التلفزيونية البريطانية في الاسبوع الذي يعقب عرض الحلقة الإسبوعية من البرنامج. وكجزء من رغبته في التجديد، يُشرك البرنامج مستمعيه عبر نقاشات او نشاطات، كمسابقة “أحسنت ” للفيلم القصير ( لا يتعدى طوله الثلاث دقائق)، التي نظمها قبل أسابيع قليلة، والتي دعا فيها هواة لإرسال افلامهم القصيرة الى البرنامج ، او البيان الذي ساهم المستمعين في صياغته، عن سلوك المشاهدة المُفترض في الصالات السينمائية، كما يتفاعل البرنامج بكوميدية غالباً مع الأحداث السينمائية الكبيرة، فأرتدى مقدماه مكياج شخصيات شريرة من عالم العميل السريّ البريطاني جيمس بوند، قبل عرض الجزء الأخير من السلسلة العام الماضي.
تُهيّمن شخصية الناقد مارك كيرمود على البرنامج. البريطاني الذي يَّطلق عليه معجبيه لقب الدكتور (حصل على شهادة الدكتوراه في السينما قبل سنوات )، هو نجم النقد السينمائي في بريطانيا. نجوميته يَّحلم بها كثير من نقاد السينما في العالم. بدء كيرمود سيرته كناقد سينمائي في صحف ومجلات بريطانية ( مازال يكتب في صحيفة الأوبزيرفر)، لكن شهرته الحقيقية بدأت منذ عمله المشترك مع زميله المذيع سايمون مايو في برامج النقد السينمائي الإذاعية قبل عقدين تقريباً. نجاح تلك البرامج، جعل التلفزيون يلتفت الى مواهب مارك كيرمود ، ليبدء القسم الثقافي في ” بي بي سي” بتكليفه منذ سنوات بتقديم برامج خاصة عن السينما. يَفهَّم مارك كيرمود طبيعة العمل للإذاعة، والفروقات بينها وبين العمل الصحفي الكتابي، لجهة الجمهور الذي تتوجه له. لذلك يحاول النقاد، الذي تجاوز الخمسين من العمر، الإبتعاد عن إستخدام المصطلحات المُعقدة، وإذا نسي أحياناً، يذكره زميله، بأن يتوقف عن إستعمال لغة صعبة. العلاقة بين المقدمين هي والى جانب شغف مارك كيرمود الكبير بالسينما، إحدى الأسباب المُهمة لنجاح البرنامج المتواصل. فهما يشكلان واحد من أبرز الثنائيات الإعلامية في بريطانيا اليوم. يدير سايمون مايو دفة البرنامج، هو يقرأ الرسائل وينظم الحوارات ووقت البرنامج، في حين يترك مهمة النقد لزميله. هناك الكثير من الكوميديا في البرنامج، والتي يُفجرها الإختلافات بين الشخصيتين، إضافة الى سرعة البديهية الإنكليزية المعروفة، بل إن هذه الكيمياء بين مقدمي البرنامج، هي وحسب سايمون مايو، السبب وراء نجاحه وليس السينما موضوعته. ربما يَملك مايو بعض الحق، فتوهج البرنامج يقل كثيراً، عندما يغيب مقدماه بسبب إجازاتهم السنوية، ويَّحل بَدل عنهم نُقاد لا شكوك في مقدراتهم، لكنهم يعجزون غالباً على تحقيق التوازن بين المادة الجديّة والترفيه، والذي يتحقق كل مرة تحت قيادة مارك كيرمود وسايمون مايو .

يَصر مارك كيرمود على هامشيّة دور وتأثير نقاد السينما في العلاقة بين الجمهور والأفلام. هو لا يتوقف عن ترديد ذلك في برنامجه، كما إنه كتب كتاباً عن الموضوعة. لكنه في المقابل قادر عبر الدعاية التي يقوم بها لإفلام صغيرة في برنامجه او على موقع “توتير” حيث ينشط، بأن يُساعد هذه الأخيرة لتصل لجمهور واسع. الناقد يقوم في نهاية كل حلقة بترشيح فيلم الأسبوع للجمهور. علاوة على إحتفائه الكبير بأفلام معينة ضمن سياق القراءات النقدية التي يقدمها. لا تكاد تخلو اي حلقة من رسالة لمستمع، يكشف فيها إنه ذهب للسينما بسبب ترشيح البرنامج لفيلم مُعين. هذا التأثير هو أحد غايات النقد السينمائي، أن يكون مؤثراً بين متلقيه، ويقودهم في ظلام الصالات الى كنوز سينمائية لم يكتشفها الجمهور الكبير بَّعد.
إنتفع برنامج ” نقد أفلام كيرمود ومايو ” في السنوات الخمس الأخيرة كثيراً من شعبية شبكة الإنترنيت ومواقع التواصل الإجتماعي، فتحول بسبب هذه الأخيرة من برنامج إذاعي بمساحة تأثير لا تتعدى بريطانيا الى ظاهرة عالمية. فعندما سمحت “بي بي سي” بتحميل البرنامج مجاناً على الهواتف الذكية او الإستماع له عبر الإنترنيت، وُجد البرنامج جمهوراً جديداً (يَسّتمِع لكل حلقة من البرنامج ما يقارب 100 الف شخص عبر تقنية “البودكاست”). كما إن تصوير البرنامج الإذاعي ووضعه على صفحة البرنامج على موقع “يوتوب”، يجلب جمهوراً واسعاً أيضا (مايقارب 20 مليون زيارة لمقاطع من البرنامج منذ عام 2008). هذه الشعبية التي لا يعرفها برنامج سينمائي آخر، حولت النقد السينمائي المقدم في البرنامج من ثقافة نخبويّة الى ظاهرة تتوجه الى جمهور أكثر بكثير من ذلك الذي يقرأ المواد النقدية في الصحف والمجلات، ومن دون أن يتخلى “النقد” عن شخصيته وثوابته المعرفيّة.