عن الفيلم التونسي “شلاط تونس”
أمير العمري

شاهدت الفيلم التونسي “شلاط تونس” للمخرجة كوثر بن هنية، في مهرجان سان سباستيان، حيث كان الفيلم العربي الوحيد في كل برامج المهرجان، وهو أمر يؤخذ دون شك، على إدارة المهرجان ومسوؤلي البرمجة فيه، فقد كانت هناك أفلام أخرى من العالم العربي، جديرة بالعرض طالما أن المهرجان متعدد الأقسام والبرامج، ومنفتح على كل الثقافات العالمية. ولكن هذا موضوع آخر.
أما فيلم “شلاط تونس” فهو يرتكز في مادته وموضوعه على سلسلة حوادث وقعت في العاصمة التونسية عام 2003، وتتمثّل في قيام شاب كان يركب دراجة نارية بالاعتداء بسكين على 11 امرأة، كان يقوم بإصابتهن في أردافهن بآلة حادة قد تكون سكينا أو مطواة، كنوع من “العقاب” العنيف من وجهة نظره، لارتدائهن سراويل ضيقة يراها مثيرة، وبالتالي تستحق الفتيات اللاتي يرتدينها الردع.
هذه الحالة العصابية لها بالقطع دوافع “ثقافية” تنبع من داخل البنية الاجتماعية، قد تكون كامنة في مفهوم الرجل عن المرأة في مجتمع مغلق يعاني من التناقضات الكثيرة بين النساء اللاتي ترتدين الملابس التقليدية العتيقة وتغطين أجسادهن ورءوسهن تماما، وبين من ترتدين أحدث الأزياء الباريسية بما في ذلك السراويل الضيقة، وهي تناقضات واضحة لكل ذي عينين في المجتمعات العربية بوجه عام، ومجتمعات المغرب العربي بوجه خاص، الذي تجمع مدنه بين شكل من الأشكال “التقليدية” المحافظة في الأزياء تنتشر – بوجه خاص- في الأحياء الشعبية، وبين قشرة من حداثة أوروبية تغلف الشوارع الرئيسية وأحياء الطبقة الثرية التي لا تهتم كثيرا بالتقاليد.
فيلم كوثر بن هنية الذي يستمد عنوانه من الكلمة الشعبية التونسية “شلاط” أي الرجل الذي “يشرط” أي يقوم بتشريط جزء من جسد المرأة بسكين أو مطواة حادة (يسمونه في تونس التشليط)، يبحث في هذه الظاهرة التي تحولت في تونس إلى ما يشبه الأسطورة، وأصبح كثيرون يتساءلون: من هو هذا “الشلاط”، ولماذا فعل ما فعل، وما دوافعه لذلك الفعل، وهل هو إنسان طبيعي أم مختل، وأين ذهب بعد ذلك، وهل كان يتصرف بمفرده أو أن وراءه جماعة أو تنظيم مثلا، أم ربما يكون المعتدون على النساء أكثر من شخص، وهل له عنوان يقيم فيه، وما الذي جرى له الآن…إلخ
ويبدو فيلم كوثر بن هنية أقرب إلى “الريبورتاج” التليفزيوني، بل إنها تتخذ له بالفعل وعن قصد، شكل الريبورتاج، فهي تحمل الميكروفون في يدها، يصحبها مصور يحمل الكاميرا على كتفه، وتذهب للبحث عن ذلك “الشلاط” وعن كل ما أحاط به وكل من يمكن أن يكون قد عرفه أو احتك به، سواء من رجاء الشرطة أم من ضحاياه السابقين من النساء، وكيف حدث الاعتداء عليهن، وما رأيهن فيما حدث وتشخيصهن له. ونفاجأ خلال هذا البحث الشيق بأن من بين الضحايا سيدات تتمتعن بدرجة عالية من العلم والمعرفة والقدرة على التحليل المنهجي للظواهر الاجتماعية، منهن من تُقدّم تحليلا علميا للظاهرة وتربطها بتخلف حركة المجتمع ونمو الأفكار الذكورية عن المرأة والتي تستند إلى أفكار متخلفة عن الدين، ومنهن من تُعبّر عن سخريتها من الفاعل، وترفض بأي شكل فكرة أن يكون هذا الاعتداء قد دفعها إلى تغيير سلوكها وتصرفاتها رغم أنها ربما تكون قد احتجبت بعض الوقت لا تغادر منزلها، خشية من تكرار الاعتداء عليها.

تحاول المخرجة في البداية الوصول إلى أحد المسؤولين للإجابة عن بعض التساؤلات الخاصة بهذا “الشلاط” الذي ظهر له مثيل في نفس الفترة تقريبا في بلدان عربية أخرى أشهرها الشخص الذي كان يعتدي على النساء في حي المعادي بالقاهرة.
الشرطى يحول بينها وبين دخول المبنى الرسمي بل ويحظر التصوير أيضا فيما يكشف عن بقاء الأمور كما كانت قبل الثورة. وتكون هذه أول عقبة في طريق البحث. لكنها لا تستسلم بل تواصل السعي، وتقوم بتعليق لافتات على المقاهي الشعبية في المدينة، تقول إنها تريد أن يتصل بها “الشلاط” لأنها تصنع فيلما وتريد أن تستعين به في الفيلم.. يأتيها كثيرون يزعمون أنهم “الشلاط”، ويتضح أنهم كاذبون غير أن مجرد وجود كل هذا العدد ممن يرغبون نسب الشخصية لأنفسهم، يكشف عن العقلية السائدة التي تجد نوعا من “البطولة” فيما قام به الشلاط وهو المعنى الذي يتردد بشكل حرفي في الفيلم على ألسنة عدد من الشباب الصغير، بل وعندما تقوم المخرجة مناقشة بعض الشباب من الجالسين في المقاهي حول “الشلاط”، نرى من يقول لها إنه ضد أن ترتدي المرأة ما تريد وإلا أصبح الاعتداء عليهم مشروعا، وعندما تقول له المخرجة إن من حق الفتاة أن ترتدي ما تشاء في نهاية الأمر وليس من حق أحد ان يفرض عليها ما ترتديه، يقول لها: في هذه الحالة، يكون من حقي أن أغتصبها!
تواصل بن هنية بحثها إلى أن يظهر شخص يبدو مقنعا يؤكد لها أنه الشلاط الحقيقي، تحاول مناقشته، يبدي سلوكا عدوانيا تجاهها، ثم يتركها ويختفي. وخلال البحث تصل هي بعد ذلك إلى من يقودها بالفعل الى مسكن الشلاط الحقيقي، فتجد أنه ذلك الشاب نفسه الذي يروي لها كيف كان يرتكب تلك الحوادث وأنه لا يجد غضاضة فيما فعله، كما يروي لها عن علاقته بالفتيات، ويخصها بالاطلاع على علاقته الحالية مع فتاة تحبه وتريد أن تتزوجه، فتقوم بتصويره مع تلك الفتاة، ثم يروي لها كيف أنه حصل من صديق له على جهاز لكشف العذرية، بطريقة مضحكة ليس من الممكن بالطبع أخذها على محمل الجد، ثم تواصل بن هنية متابعتها لهذا الشاب، وتقوم بزيارة أمه في منزلها، التي تؤكد لها ان ابنها هو الشلاط وإن الشرطة قبضت عليه وقاموا بضربه وقضى فترة في السجن.
لكن الحقيقة تتضح في النهاية وهي أن هذا الشاب ويدعى رضا، ليس أكثر من شاب يهوى التمثيل ويرغب في الظهور بالفيلم. ويؤكد لها أحد رجال القانون أن الشرطة كانت صدقت بالفعل أن رضا هو الشلاط الحقيقي، أو أنهم كانوا يريدون أن يلصقون به التهمة بسبب مشاكله الكثيرة في الشارع، لكن الحقيقة اتضحت أمام القاضي في المحكمة، وأٌطلق سراحه.
يعتمد الفيلم على البحث الميداني الذي يميز شكل الريبورتاج أي فيلم التحقيق والاستقصاء، والمزج بين الوثائقي والتمثيلي (ولا نقول الروائي)، كما يستند إلى المقابلات المباشرة مع شخصيات عديدة تُقدّم تصورها للقصة أمام الكاميرا من زوايا متباينة، وعلى الايقاع السريع، وإعادة التجسيد، ونقلات المونتاج التي تؤسّس للانتقال من مفصل إلى مفصل آخر، فالفيلم ينتقل بين فكرة النظرة الذكورية للمرأة، إلى البطالة وضياع الشباب الذي لا يجد عملا، ثم نظرة الفتيات لما وقع في تونس بعد الثورة، إلى رغبة المخرجة في معرفة الحقيقة عن الشلاط وضرورة محاسبته في مجتمع ما بعد الثورة.
لا يخضع الفيلم لسيرورة مرتبة في السرد، بل ينتقل إلى الأمام وإلى الوراء، من شهادات الشهود، إلى آراء العامة، إلى مقابلات مع المتخصصين والمسؤولين، إلى لقطات مأخوذة مباشرة من قلب الواقع في تونس، تكشف كيف يتعامل الشباب مع الفتيات. وتقول المخرجة من خلال تلك اللقطات إن الثورة التي وقعت في 2011 لم تُغيّر كثيرا من نظرة المجتمع الذكورية إلى المرأة، وأن الحديث عما كانت تتمتع به المرأة في ظل النظام القديم من حريات واسعة، هو حديث زائف، وأن القشرة الحداثية لا تكفي لمنح المجتمع استقرارا ومتانة، بل يجب تغيير ثقافة المجتمع نفسها قبل الحديث عن أي تقدم يمكن أن تحققه الثورة.