“فكرة خطيرة”.. على خطى غاندي

قيس قاسم

من تعب الحروب والصراع الدموي الذي يبدو لا نهاية له انبثقت فكرة “الكفاح السلمي” من الطرف الفلسطيني الأكثر تضرراً بها، ما استحق معاينتها سينمائياً كما فعل السويدي بيتر لونغرين وعنون فيلمه من وحيها: “فكرة خطيرة” فليس هيناً على المستلبة أرضه والمهدور دمه أن يقبل بسهولة أفكاراً ومفاهيم تبدو في الظرف الذي يعيشه الفلسطيني بطراً ومع هذا فرض الواقع شروطه ومهّد لانبثاق حركات سلمية امتدّ تأثيرها ونطاق انتشارها إلى الخصم ما شكّل نواة مشروع سياسي مستقبلي لا يدّعي الشريط معرفة مقدار صموده وديمومته لكنه وجد نفسه معنياً بتلمسه كظاهرة نادرة على المستوى التاريخي افتتحها القائد الهندي غاندي وعلى خطاه سار الفلسطيني مبارك عواد وتيمناً به أطلق الناس عليه لقب “غاندي فلسطين”.
عن مبارك وشخصيات متفرقة من الطرفين: الإسرائيلي والفلسطيني رسم منجز لونغرين بورتريهات شخصية بأسلوب سينمائي سجالي لم يرتكن إلى النوايا بل إلى المعطيات على الأرض لهذا عاد إلى فلسطين بعد عشرين سنة على آخر زيارة له لذات المكان الذي سمع فيه “صوت السلام” وهذه المرة وهو في طريقه لمقابلة أحد الأشخاص المعنيين بفيلمه، يسمع داخل سيارته إذاعة “صوت السلام” بالانجليزية وقد عادت للبث بعد انقطاع طويل، ومازالت تدعو كعادتها إلى مقاربات سياسية جد منسجمة مع فكرة الحركات السلمية التي جاء السويدي ليوثقّها رغم أن حرب غزة الأخيرة لم يمضِ على توقفها سوى أسابيع واحتمال اندلاعها كبير مستقبلاً، ما يمنح مهمته السينمائية قوة وخطورة تقارب “الفكرة الخطيرة” التي تقول: أنه من الممكن أن يعيش الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي بسلام بعد زوال المسببات القوية لفرقتهما الطويلة، وأن فكرة الصراع الأزلي بين الطرفين لا أساس تاريخي ولا واقعي لها”.
يندهش متابع نص لونغرين السينمائي من إحاطته الدقيقة بالموضوع الذي أراد الاشتغال عليه والجهد الإعدادي الذي بدا واضحا عند شروعه برسم الخطوط الأولى لشخصية مبارك عواد أو “غاندي فلسطين”.

 
تسجيلات الفيديو الشخصي إلى جانب صور من صحف قديمة ومراجعة لنشرات إخبارية تلفزيونية محفوظة في الأرشيف تعطي كلها صورة عن رجل ذاق مرارة الاحتلال وعذابات سجونه ولهذا السبب اكتسبت فكرته التي تبلورت خلال السجن وليس في منازل فارهة مصداقية بين الناس والمقربين منه. اطلاعه الكثير على تجارب الشعوب وإتقانه الإنجليزية عوامل ساعدت على تبلور فكرة “الكفاح السلمي” وملهمها غاندي لكنه أراد تطبيقها على مقاييس فلسطينية حاول الوثائقي التحقّق منها عندما زار قرى والتقى بشخصيات أكدت جدوى هذا الأسلوب النضالي عندما نجحت مساعيه ومفاوضاته لاستعادة بعض أراضيهم التي استلبها “المستوطنون” الإسرائيليون.
 “نجاح أساليب النضال السلمي تحرج وتضعف الخصم حين تسقط من بين يديه الحجج القوية والذرائع لإستخدام العنف ضد الطرف المطالب بحقوقه”، يشرح مبارك أفكاره بوضوح فيما الكاميرا تذهب إلى أمكنة أبعد لتربط الخطاب الشفاهي بالسرد البصري وتجلياته الأوضح كانت هذة المرة في قرية “نبي صالح” التي صارت رمزاً لهذا العنوان من الكفاح الفلسطيني.

 

يعتمد تكتيك هذة القرية الصامدة على مبدأ “المواظبة” فكل يوم جمعة يخرج الناس في تظاهرات سلمية سرعان ما تجابه بعنف الجيش الإسرائيلي الذي يجد نفسه ورغم كل قوته الحربية محرجاً في مجابهة أفراد عزل بل وأكثر من هذا أناس تعلموا كيف يستخدمون كاميرات الفيديو كسلاح فعال في نضالهم وإحدى الشخصيات التي سيرسمها بونغرين في شريطه امرأة لم تتخلى لحظة عن تسجيل كل التفاصيل التي سرعان ما تتحول، عند نشرها وبثها، إلى سلاح ماضٍ في معاركهم العادلة ضد المستوطنيين وضد الجيش الذي يقف في صفهم ولا يحرك ساكناً وهو يرى أمامه عمليات سرقة منظمة لأراضي الفلسطينيين ومزارعهم.
المرأة اسمها ناريمان تميمي، من قرية “نبي صالح” قادتها تجربة فقدان أخويها على أيدي قوات الجيش إلى تبنّي فكرة “الكفاح السلمي” الذي يمنحها قوة كبيرة تدفعها كلما أتيحت لها الفرصة لمواجهة الخصم والكاميرا بيدها مثل مراسلة حربية. ما يعرضه الوثائقي السويدي لمنجز ناريمان الكفاحي مع أهلها يفوق كل كلام ويضع الحقائق صارخة ومقنعة بخاصة للمشاهد الغربي.

 فكل ما يريده الناس، هنا في وطنهم ووطن أجدادهم، هو العيش بسلام وزراعة أراضيهم وتربية مواشيهم لكن المستوطنيين لا يتركونهم وشأنهم ولا يكتفون بما أخذوه. صورة باهرة تجسدها ناريمان تكتمل مع صورة أرادها لونغرين أن تكون مُقرّبة بنفس المقدار الذي قرّب فيه صورة الفلسطيني في وثائقيه المؤثر. هذه المرة نحن أمام رجل يهودي يدعى بن كفير خسر ابنته الوحيدة أثناء خدمتها الإلزامية أثناء عملية نفذّها فلسطينيون ينتمون إلى فصائل مسلحة. مشاعره ينقلها بلغة دقيقة لا لبس فيها ما يعطي لكلامه عمقاً.

 يصف بن كفير كيف ملأ الحقد قلبه بعد موت ابنته وأراد الانتقام من كل فلسطيني على وجه الأرض، لدرجة خطّط فيها لقتل بعض عمال بناء عرب يعملون في الداخل، ولكن صوت العقل الذي سمعه من أشخاص تبنوا “الفكرة الخطيرة” منعته من الذهاب بعيداً في أحقاده. لقد استبدلها بفكرة الحوار وحوَّل كراهيته وغضبه على سياسي بلاده الذين لا يجدون حلاً لمشكلتهم مع الفلسطينيين وعلى أساليبهم الخاطئة التي تدفع شباب الطرف الثاني إلى التشدد.

كلام بن كفير وتجربته شجّعت صانع الوثائقي السويدي على البحث عن عينات تقارب بين النماذج المُقدّمة من الطرفين فوجد أندية وأشخاص من الجانبين يلتقون ويتفاهمون على قاعدة إنسانية تبغض الحرب وتدعو إلى السلام والعيش المشترك بعيداً عن مخططات ومنافع الساسة وتشدّد المستوطنين وبعض الحركات الفلسطينية التي لا تؤمن بالسلم وسيلة كافية لإسترجاع الحقوق. في مداخل إحدى القرى التي يتقارب فيها الناس من الجانبين وليست بعيدة عن مخيم الدهيشة علّق الناس عبوات القنابل المسيلة للدموع، التي أطلقها الجيش الاسرائيلي ضدهم، على أسلاك في مدخل القرية فبدت مثل لوحة سوريالية معبرة عن التناقض وخطورة الفكرة التي يشتغلون عليها.

 ففي الوقت الذي يتقارب بعض الناس من الطرفين لا يتخلّى الجيش عن ممارساته وقتله للفلسطينيين في حين، يصر هؤلاء على التقارب مع استمرارهم في النضال بدون “سلاح” عكس الجيش الذي لا يعرف غيره وسيلة لمجابهة الخصم العنيد.
مشهد توقف عنده الوثائقي قليلاً ثم سارع مشيه نحو العمق ليسجل ملامح أدق لـ”فكرة خطيرة” وجدت من يسمعها ومن يؤمن بها ولكن ولحين مجيء اللحظة التي تحقّق مبتغاها فإن الكثير من الأحداث قد تجري وربما حروب ستنشب ولكنها كلها وفي نهاية المطاف ستفضي لقبول مناقشة الأفكار السلمية الجديدة كما فعل الوثائقي السويدي وأبدع.   


إعلان