الوثائقي “ملح الأرض”: الانحياز للإنسان وللطبيعة

أمير العمري

لاشك أن فيلم “ملح الأرض” يعتبر أهم ما عُرض من أفلام وثائقية في مهرجانات السينما العالمية هذا العام. ولاشك أيضا أنه سوف يجد طريقه بسرعة إلى قاعات العرض السينمائي وقنوات التليفزيون حول العالم. ويرجع هذا إلى موضوعه الإنساني الكبير الذي ينطلق من وعي الفرد، الإنسان، ومن خلال عين الفنان، لكي يشمل العالم بأسره.
يستند الفيلم إلى تجربة المصور الفوتوغرافي البرازيلي الشهير سباستياو سالجادو Sebastião Salgado، الذي يمتلك تجربة هائلة في التصوير، ليس فقط من زاوية فنية تجعل أعماله التي ظهرت في مجموعة من الكتب المصورة، تصلح لأن تروي قصة أربعين عاما من الألم الإنساني في العالم، بل وأساسا، بسبب رؤيته الإنسانية التي ترفض الظلم، وتطرح التساؤلات حول الاختيار الانساني الصعب، وكيف أصبح الإنسان أكثر المخلوقات قسوة في عالمنا: سواء تجاه من ينتمون إلى جنسه البشري، أو ما يرتكبه من اعتداءات يومية على الحيوان والطبيعة، وهي أفكار لا تتردد فقط على لسان سالجادو بل تصل إلينا من خلال صوره وزوايا تصويرها وتكويناتها وإضاءتها وتنوعها وجرأتها.
اشترك في إخراج هذا الوثائقي الطويل (109 دقيقة) المخرج الألماني فيم فيندرز Wim Wenders مع الإبن الأكبر للمصور، جوليانو ربيرو سالجادو، وصُوّر الفيلم في معظمه بالأبيض والأسود، وهو يروي في فصول متعاقبة، قصة المصور الكبير، ويتابع رحلاته وأعماله خلال أربعين عاما، من خلال المقابلات المصورة معه قديما وحديثا، ومواد أرشيفية قديمة، وصوره الفوتوغرافية التي تُعدّ ركنا أساسيا في تكوين هذا الفيلم، والتعليق الصوتي على الصور سواء من جانب سالجادو نفسه، أو ابنه، أو فيندرز الذي يُعلّق بصوته ويوجه أيضا الكثير من الأسئلة، كما تظهر في الفيلم “ليليا” زوجة سالجادو ورفيقة مسيرته الطويلة الشاقة وهي التي كان يتعين عليها أن تتحمل غيابه عنها لسنوات أحيانا، خلال رحلاته الاستكشافية المثيرة إلى أكثر الأماكن خطورة على سطح الأرض.

إننا نرى أولا كيف يُقرر سالجادو أن يهجر عمله كخبير اقتصادي بعد عودته من مهمة تابعة للبنك الدولي في أفريقيا في الستينيات، لكي يتفرغ للتصوير، فينتقل مع زوجته إلى باريس، حيث يشتريان بكل ما يملكانه من مال مُعدّات تصوير ويؤسسان الاستديو الخاص بسالجادو هناك، ثم يبدأ هو في العمل الفعلي.
في البرازيل يقوم بتصوير الآلاف من عمال المناجم الذين يملأون أرجاء منجم مفتوح شاسع، يستخدمون أيديهم في التنقيب بما يشبه السُخرة، بحثا عن الذهب، ورغم أنهم – كما يقول سالجادو في تعليقه – ربما يكونوا مثل المصريين القدماء الذين قاموا ببناء الأهرامات، أو أولئك الذين شيدوا برج بابل، إلا أن دافعهم هو فقط الحلم بالثراء، وليس تخليد العظمة.

بناء الفيلم
ينتقل الفيلم طوال الوقت، بين الحياة الخاصة لسالجادو، وبين عمله وصوره الفوتوغرافية وتعليقاته عليها، فنحن نشاهد مثلا كيف كان غائبا أثناء ولادة ابنه الذي أصبح الآن مساعده، وهو المخرج المشارك مع فيندرز في فيلمنا هذا، وكيف ولد له ابن آخر لكنه جاء إلى العالم مصابا بمرض “داون” المعروف، ثم ننتقل إلى تجربته في حرب البوسنه وصوره التي ترصد المأساة هناك، ثم إلى تجربته في حرب الخليج الأولي حينما انتقل إلى الكويت وصور في لقطات نادرة الحرائق التي أشعلها الجيش العراقي في آبار النفط هناك، ونتوقف أمام مجموعة من الصور التي ترصد عجز عدد من الخيول العربية الجميلة عن الهرب من تلك الحرائق بينما هي حبيسة وراء الأسوار، وكم ما نتج من تلوث هائل للبيئة بفعل الحرائق.

التجربة الكويتية لساجادو ستمنحه وعيا جديدا بما يرتكبه الإنسان بحق كوكبنا الارضي من دمار متعمد، سينعكس فيما بعد، على اهتماماته في عمله وصوره.
كان سالجادو في الثمانينيات أول من لفت العالم إلى ما يجري في إثيوبيا من كارثة إنسانية: لقد صور المجاعات وتوقف طويلا أمام الأطفال الذين يموتون بفعل الجفاف، ورصد المتاعب الشاقة التي تواجهها وكالات الاغاثة هناك وتعرضها للنهب والسلب والقتل، كما ينتقل إلى “الهولوكوست” الافريقي في رواندا ويصور النزوح الجماعي للسكان والمذابح التي يتعرضون لها، وتعرُّض الملايين للموت إما بسبب الجفاف وندرة المواد الغذائية، أو بالذبح على أيدي الميليشيات المسلحة التي تمارس عمليات التطهير العرقي، وهو ما أدّى إلى هلاك أكثر من مليون شخص. الصور التي التقطها سالجادو هنا، يتوقف هو أمامها، يتذكر تفاصيل كل صورة، ويروي كيف أنه كان يضطر مرغما إلى التوقف عن التصوير لكي ينخرط في البكاء أحيانا من قسوة ما يرى، وكيف أنه خرج من تلك التجربة وهو على قناعة بأن الإنسان هو أكثر المخلوقات إساءة للإنسانية بما يرتكبه من جرائم جماعية، وكيف فقد الأمل في مستقبل الانسان.
إلا أن سالجادو يعود ليشرح كيف أنه كان يتجنب دائما تصويرالحيوانات، إلى أن قرر أن يكتشف هذا الجزء من العالم، الطبيعة بمخلوقاتها، رغم اعتراض أصدقائه وتحذيرهم له من أنها قد لا تجذب اهتمام أحد، فهو  يتوقف أمام الصور التي ترصد كل صغيرة وكبيرة في حياة سكان المناطق النائية الثلجية في القارة القطبية، ويصور الصراع الدموي الذي يجري بين أعداد كبيرة من الحيوانات الثديية القطبية.
يقول سالجادو إنه أدرك ان أكثر من نصف الكرة الأرضية لم يكتشفه الإنسان بعد، فأراد أن يكتشف تلك المناطق ويصورها. وفي لقطات هائلة نشاهد آلافا مؤلفة من طيور البنجوين السوداء تقف فوق جبال الثلج الممتدة الى مالانهاية، تحملق في الأفق.

العودة إلى الطبيعة

ومن ذلك الاهتمام الكبير بالطبيعة يتحول اهتمام سالجادو بعد أن بلغ السبعين من عمره الآن، إلى العودة لإحياء التراث الإنساني القديم الذي يتمثل في علاقة الانسان الحميمية بالأرض، بالأشجار والحيوانات وأساسا، بالطبيعة. يقرر سالجادو كما نرى، أن يعود إلى المزرعة التي ورثها عن جده في البرازيل، والتي تحوّلت إلى رماد وخراب، لكي يستعيد رونقها، فينجح في زراعة أكثر من 2 مليون شجرة بالتعاون مع الفلاحين في المنطقة، وقد جعل من المزرعة الشاسعة مكانا مفتوحا للبشر، يعملون ويجنون منه ما يشاءون دون احتكار ودون أي قيود تتعلق بالملكية وغيرها.. لقد تمكّن أخيرا من العودة إلى جذوره الطبيعية.. إلى الأرض وإلى “ملح الأرض”.
لعل أهم ما يميز هذا الفيلم، إلى جانب موضوعه الإنساني الكبير، جانبه الجمالي الذي يجعل المشاهد لا يستطيع أن يغمض عينيه ولو للحظة واحدة، أمام تلك التكوينات المذهلة، وتعاقب الصور الذي يروي في تسلسل، علاقة المصور الكبير، بعائلته، بابنه، بكاميرته، بمساعده، بموطنه، بالعالم وما يحدث فيه، وتكشف انشغاله الكبير بالتعبير من خلال الكاميرا، عن موقف واضح يعارض كل أشكال العنف والقمع والظلم الإنساني والاعتداء، على البشر وعلى الطبيعة.
فيلم “ملح الأرض” ليس فيلما تقليديا عن شخصية من مشاهيرالتصوير الفوتوغرافي، بل عمل كبير عن كيف يصل الإنسان بوعيه الذي يكتسبه تدريجيا، إلى إدراك أنه جزء لا ينفصل من العالم، من تلك الطبيعة التي وهبها الله له، وكيف أنه أوصاه بالحفاظ عليها، يتعلم دروسها، ويستفيد من تنوعها، ويجعلها بيئة صالحة للعيش المشترك بين البشر. وهذه هي أعظم قيمة يخرج بها مشاهدو الفيلم.


إعلان