عالمٌ بلا ذكريات

                                                     

مروة صبري

مع كل ما يحدث من حروب حولنا في العالم وما تُسبّبه من قتل ودمار يسهل الاندماج مع فكرة كتاب The Giver أو المعطي (للذكريات) للوويّس لاوري والذي تحول مؤخرًا لإنتاج فنيّ  من إخراج فيليب نويس  Philip Noyce. الكتاب يأخذنا إلى مستقبل افتراضيّ بعد أن حولت الحروب العالم إلى حطام. فقررت مجموعة من الناجين عمل مجتمعات لها قوانين صارمة لتجنب الأخطاء السابقة. عالم بلا اختيارات وبالتالي بلا صراعات. فلجنة الشيوخ تختار أسماء المواليد ومن يستمر في المجتمع ومن يعفى إلى مكان آخر. لا أحد يعرف شيئًا عن هذا “المكان الآخر”. ولأنّه مجتمع آمن والجميع يمشي أو يركب الدراجات ولأنّ الوجبات الغذائية يعدها متخصصون فالصحة العامة للناس جيّدة ونسبة الموت الطبيعي لا تكاد تذكر. كل عمل في المجتمع بتكليف حتى حمل الأطفال. فهناك من يتم اختيارهنّ للتلقيح ثمّ توزع اللجنة أطفالهنّ على زوج وزوجة تمّ مسبقًا تنسيقهما معًا. لكل أسرة ولد وفتاة. فإذا بلغ الأب والأم الكبر، عاشا في مكان للعجائز فقط حتى يأتي موعد الإعفاء. لا يسمح لغير الأصحاء بالبقاء. لا أحد يعرف والداه الأصليان ولا أجداده. لا يوجد اسم عائلة. لا يسمح بالألم ولا بالجوع ولا بالبرد ولا بالحر ولا بالتنافس فالدواء متوفر وكل شيء محكوم بنظام وتقنيات عالية. حتى المشاعر ورؤية الناس للألوان أبطلوها بعقاقير فأصبح الجميع لا يرى إلا اللونين الأبيض والأسود. لا أحد يذكر التاريخ الدموي للأرض ولا أي بهجة لعالم مغاير لما هم فيه. شخص واحد فقط يحمل هذا العبء عن الجميع. شخص واحد فقط يحمل ذكريات التاريخ بحلوها ومرها. يعرف أنّ الحال لم يكن بهذه الصرامة من قبل. هذا الشخص هو معطي الذكريات. وقد تم اختيار جوناس ليكون المتلقي لها.

أّثّر الكتاب في أجيال من الأمريكيين منذ صدوره في عام 1993 لما يثيره من نقاط هامة حول علاقة الاختيار باشتعال الحروب. ماذا لو قضينا على مشاعر الكراهية والغيرة والتنافس؟ لأول وهلة يبدو هذا العالم المختلق مثاليّ إلا انّه لكي تُزال المشاعر السلبية لابد وأن تزول معها المشاعر الإيجابية وعلى رأسها مشاعر الحب بين أفراد المجتمع. فالحب قد يسبب غيره وحقد يعقبه شر وربما قتل. لكنّ غيابه أيضًا تسبب في شر وقتل تحت اسم مختلف أطلق عليه في هذا المجتمع “إعفاء أو إطلاق سراح”. ولدفن تلك الحقيقة المقيتة، تم تدريب القائمين عليها وعلى رأسهم والد جوناس على الكذب.
استشعر جوناس هذا النفاق وأراد تغييره وجاءته الفكرة من “روزميري”، متلقية الذكريات قبله والتي لم تحتمل إلا شهرين وطلبت الإعفاء. وبموتها تسرب ما تحمل من ذاكرة إلى المجتمع. تعرض الناس وقتها لمشاعر لم يتعلموا التعامل معها. لذا صدر قانونًا بمنع المتلقي من طلب الإعفاء لكنّ التجربة أوحت لجوناس أنّه لو خرج عن حدود المجتمع المحكوم ستتسرب ذكرياته هو أيضًا وقد رأى مع أستاذه انّ الوقت قد حان لعودتها. 
باع الكتاب اثنا عشر مليون نسخة منذ صدروه وطمح منتجو الفيلم في نجاح مماثل إلا أنّ تلقي النقاد له كان حادًا. اتهمه أحد النقاد بأنّه يعاني مما يعاني منه أفراد العالم الافتراضيّ من تشابه و تماثل. فهو لم يصدم المشاهد بل اتبع خطوات الأمان التي نجحت في أفلام كثيرة قبله. والحقيقة أنّ رأيّ النقاد في هذا العمل محيّر. فالتوليفة التي جمعت فيه حقًا لا يظن أنّها تخيب. فالممثلين من المشاهير كجيف بريدجيز Jeff Bridges، ميريل ستريب Meryl Streep، وأختير الممثل الأسترالي برينتون ثويتسThwaites Brenton لدور البطولة. حتى ضيفة الشرف تيلور سويفت Taylor Swift لها جمهور عريض كان يطمح في استمالته. ومع ذلك وبميزانية 25 مليون دولارًا أمريكيًا وعلى الرغم من الدعاية إلا أنّه حاز المرتبة الخامسة في شباك التذاكر. يعزي البعض هذا الفتور لتزامن عرضه مع بداية العام الدراسيّ في الولايات المتحدة وانشغال الطلاب وهو أمر معتبر إلا أنّه لا يفسر رأي معظم النقاد الذي بالغ في رفع الكتاب وتنقيص الفيلم.

 
بين الكتاب والفيلم

الفيلم في نظري أنجح من الكتاب ولكن به سقطات. فالكتاب يعمد إلى السرد بدلًا من الحوار. شخصياته على وتيرة واحدة. يتحدثون بطريقة واحدة. حتى شخصية المعطي (للذكريات) فهي عادية بلا ملامح، مستسلمة للوضع. يظهر ذلك في مفرداته الرتيبة التي لا تعكس حكمة التجارب التي يستأسر بها دون أفراد المجتمع. إيقاع الكتاب مرتبك، يبدأ بطيئًا مليئًا بالتفاصيل ثمّ يسرع في مواضع تحتاج لتفاصيل. وفجأة تأتي النهاية التي أدرك كثير من القراء أنّها محبطة وأرسلوا للكاتبة بذلك. فكتبت كتابًا ثانيًا وإن لم يبدو مرتبطًا بالأول لكنّه أيضًا عن مجتمع آخر تكوّن بعد حطام العالم الذي نعرفه اليوم. ثمّ أتبعت بكتاب ثالث حتى أتممت الرباعية. مع ذلك فأشهرهم هو الكتاب الأول وهو الذي وصل لدور العرض.
أول ما يلفت الانتباه هو تغيير عمر أبطال القصة من الثانية عشر في الكتاب إلى السادسة عشر في الفيلم. وهو تغيير يبدو لأسباب تجاريّة خالصة. فقد سمح ببلورة علاقة رومانسيّة بين البطل جوناس وصديقة طفولته فيونا مما أفقد الكتاب عفوية الطفولة وأضل المشاهد عن مقصد الحب بعمومه الذي أشارت له لاوري في كتابها. والذي اتضح في سؤال جوناس لوالده إن كان يحبه. وفي التوّ اعترض والداه في الكتاب وفي الفيلم على التعبير الذي لم يرياه محددًا واستبدلاه بكلمة الاستمتاع والفخر به. كما أنّه فوّت الفرصة على المعلمين والمربيين للاستعانة بالفيلم كأداة في الفصول التي تقره على طلابها. فحتى المدارس الأمريكية لا يمكن أن تسمح بمشاهد قبلات في فصولها وخاصة لطلاب المرحلة الإعدادية.

في الكتاب، انشغل جوناس بجلساته مع أستاذه على حساب علاقته بآشر وفيونا صديقا الطفولة. أما في الفيلم فقد فردت مساحة أوسع لفيونا وكثر ظهور آشر يرقبهما من بعيد بنظرات غير راضية لمخالفتهما بعض القوانين. وتحوّرت شخصية آشر في الفيلم وكذلك مهمته. ففي الكتاب، آشر شخصية مرحة لا تأبه بالقوانين بل وتجتذب المشاكل لذا كُلّف بمهمة مساعد الأنشطة الترفيهية. أما في الفيلم، فقد صار طيارًا جادًا حريصًا على القوانين. هذا التغيير حرم المشاهد من مفارقات شخصيّة عفوية وسط عالم صارم. أتفهم أنّ كاتب السيناريو أراد خلق تحدّ في رحلة هروب جوناس حين يتصدى له صديق العمر ومرة أخرى حين يوكل بالقبض عليه وقتله. لكن ألم يكن من الأفضل خلق شخصيّة جديدة لتقوم بهذا الدور مع الاحتفاظ بشخصية آشر المرحة؟
نجح كاتب السيناريو في تطوير شخصية المعطي في الفيلم فبدا كإنسان حكيم غير راض على الوضع ولديه خطة دفينة لتبديله فأعطى لجوناس الذكريات والمعلومات التي هدته لنفس التفكير.

في الكتاب، كان من المقرر أن يسافر جوناس بمفرده لكنّه علم من والده أنّه سيتم في الصباح إعفاء/ قتل جبرييل، الطفل الذي أحضره أبوه ليرعاه في البيت لأنّ نومه ما زال متقطعًا لا يمكن تسليمه لأسرة بهذا الحال. لذا عجّل جوناس برحلة هروبه خلال الليل دون أن يتسنى له توديع معلمه الذي كان ينتوي أن يمده بذكريات عن المثابرة تساعده في مشقته. أما في الفيلم، فقد كان جبرييل في دار الرعاية التي تعمل بها فيونا وقد ساعدته على الهرب به فحكم عليها بالموت على يد والد جوناس مما أضاف بعد الإثارة والترقب.
 أكثر المشاهد التي رجحت رأيي لصالح الفيلم دون الكتاب هو مشهد مرور جوناس على معلمه قبيل سفره لتلقى ذكريات مثابرة سيحتاجها في رحلة لم ينجح فيها أحد. وبمجرد لمس المعلم لجوناس انهالت صورًا نقلت المشاهدين من المحلية الأمريكية للكتاب إلى العالمية. صورًا متعددة ومتلاحقة منها صورة لعدّائين في سباق، صورة من شخص يقفز من فوق جبل عال، ….وصورة من ميدان التحرير في مصر. من المحال ألا تلمس هذه اللفتة أوتار مشاهد عربيّ عامة ومصريّ خاصة.

تحديات نقل المادة المكتوبة إلى مرئية
تحويل الكتاب إلى عمل سينمائيّ لم يكن بالأمر اليسير على كاتبيّ السيناريو. فقد كتب أولهما الحوار منذ حوالي سبعة عشر عامًا وهو روبرت ب. ويد،  ثمّ عدّل فيه مايكل ميتنيك ورؤيته هي التي وصلت للشاشة الكبيرة. فكرة الرواية متميزة ومثيرة ولذا حصدت جوائز عدة لكنّه في رأيي كان أضعف كتب الرباعيّة من حيث مهنية الكتابة وكأن لوري لم تكن قد تملكت من كل شعاب القصة بعد. تدارك كاتبيّ السيناريو أخطاء الكتاب وحولاه ببراعة إلى فيلم شيّق ومن خلال الذكريات المشتركة التي نقلها معطي الذاكرة للمتلقي، رأينا العالم بألوانه وأديانه وأطيافه. رأينا المسلمين مصطفين للصلاة. رأينا المسيحيين واليهود والبوذيين. رأينا الأفارقة يرقصون ورأينا اجتماع أسرة حول شجرة الكريسماس. كانت أول مرة يرى فيها جوناس رضعًا وشيوخًا في نفس المكان يشاركون احتفالًا موحدًا. رأينا الحروب والدماء ورأينا وحشية الإنسان تجاه الحيوان. رأينا الأم والأب يحنون على صغارهم. رأينا فرحة الأعراس والمولود الجديد. رأينا الأحزان. رأينا الفوز ورأينا الهزيمة. رأينا القوة ورأينا الضعف. كم من المشاعر الفياضة أغرقت الشاشة بسرعة لم تسمح للعقل بتحليل محتواها لكنّه وصلت للقلب وبينت بني آدم في كل أحواله. حتى أنّه بعد انتهاء الفيلم لا يملك المشاهد إلا أن يشعر بالتعاطف تجاه هذا الجنس المحيّر الذي ينتمي إليه..الجنس البشريّ.


إعلان