التونسي حمزة عوني ورائعته “جمل البروطّة”

المخرج التونسي “حمزة عوني” نموذج للمثقف العضوي الذي تحتاج البلدان العربية إلى العشرات منه

د. أمــل الجمل

 

 

رغم وعيه الواضح من طرح أفكاره وموضوعات فيلميه، رغم ثقافته العميقة المتنوعة ورغبته المخلصة في خدمة أبناء بلده والارتقاء بهم وبوعيهم، رغم عناده وإصراره على عدم تقديم تنازلات في الفن الذي يريد تقديمه، رغم تمردّه على منظومة الإنتاج الفاسدة في تونس – كما في بلدان عربية كثيرة – لكن المخرج التونسي حمزة عوني يُؤكد بأنه ينتمي لجيل مهزوم لأسباب كثيرة تتكشّف تدريجياً في ثنايا حواره التالي.

كيف بدأت فكرة “جمل البروطة”؟
   لأنّ هناك فكرة تتعلق بتونس توجعني ، فكرة أن تونس التي كانت ومازالت تحلّق نحو الانفجار، ولأنّي أتصوّر أنّه من واجبي كفنّان أن أحاول التّقييم فنّيّا، لأنّي لست سياسياً أو مؤرّخاً. لكن لديّ نظرة فنيّة إزاء الأشياء التي تحدث في البلاد. في نفس الوقت فقدت أشخاصا كانوا مهمّين بالنّسبة لي، وبالنّسبة للجيل الذي أنتمي إليه. أشخاصاً كانوا يحملون حلماً كبيرا. حلمهم لم يكن حلماً فردياً، وإنما حلماً جماعياً.. حلم للبلاد. هؤلاء الأشخاص مضوا هكذا من دون أي اعتراف بهم. هناك أناس دخلوا السّجون. هناك مَنْ قاوم. هناك مَنْ مات، ولم يسمع به أحد في كل البلدان العربيّة. أناس كانوا هامّين، ليسوا فقط أدباء وفنّانين، لكن أيضاً مواطنون عاديّون كانوا في المعارضة، وحاولوا إيصال صوتهم، لكن لم يصلوا إلى هدفهم.

 هذا من ناحية، رؤيتك أيضاً لمعاناة الشباب التونسي لعبت دورا، وهو ما يبدو بوضوح في “جمل البروطة”؟
    في الغرب يقولون عن الجيل الجديد من الشّباب التّونسي “إنه شعب متعلّم”، هو طبعاً متعلّم، لكن الأمر ليس هذا وفقط، إنه متعلّم لكن لديه خاصّة المعلومة. فوسائل الإعلام حتّى ولو كانت مغلقة، ولا تسمح له بأن يعرف ما يحدث في وطنه، لكنه يعرف ما يحدث في العالم… شباب عاش حروبا وقعت أمامه… هذا الشّباب، عام 2000 زمن الانتفاضة الثّانية كان يشاهد وهو جالس أمام التّلفزة شباب يدافع عن حقّه في الوجود، والحياة، والكرامة… شاهد 11 سبتمبر… شاهد غزو العراق… شاهد حرب في لبنان… كلّ هذا وهو جالس، وصامت، وكلّما حاول الخروج إلى الشّارع يّمنَعُ ويُقمَعُ… يشاهد في وسائل الإعلام الغربيّة صورة الإنسان العربي بصفة عامّة إرهابيّ. صورة سلبيّة إلى أقصى درجة. هذا الشباب أيضاً يشاهد غليان والديه ومعارضتهما للنظام، وهما لا يستطيعا فعل أيّ شيء، وحتّى إن فعلا يعاقبا. كلّ هذا مخزون. اجتماعيّا الأفق مسدود أمامه. إنه يشاهد الكثير من الأموال لدى العائلة الحاكمة بينما هو محروم. حتّى إذا كان لا يحلّل هو يشاهد و يحسّ. كلّ هذا وهو صامت. إذن هناك احباط عام في البلاد. لكن داخل هذه البلاد هناك رجال ونساء هامّون جدّا. كانوا ومازالوا موجودين حتّى الآن، ولا يتحدّث عنهم أحد، كأنّهم منفيون في وطنهم. هكذا انطلقت فكرة الفيلم حتّى نكون يقظين، وتكون لنا الجرأة في أي مكان، وأي زمان، لتحديد المشاكل والمسؤوليّات، فنتحدّى خوفنا، ونتصدى للنسيان.

 

 

 

كيف عملت على بناء فيلمك؟
    لست متشبّعا بالحداثة وآلياتها، وما بعد الحداثة، وما يوازي ذلك. دخلت هذا الفيلم بالثوابت التي لديّ، والمتحولات التي فيّ. بدمي وعقلي، بمراجعي، بحيرتي، وبكثرة الجهد في قراءة الواقع التونسي، فليس الموضوع وحده هو المهمّ، ولكن طريقة طرحه أهم. منهجيّة الطّرح، سلامة الطّرح، موضوعيّة الطّرح، عدم التّحامل، إعطاء الكلمة لهذا وذاك. الوعي بهذه المشاكل وبوجوديتها، لأنها ربما تقتل الإنسان. دون نسيان أنّي أمارس فنًّا راقياً. كذلك لأنّي أعتبر أن قساوة العمل السّينمائي، أي قساوة الحياة، تفرض عليّا تغيير الآليات، حتّى أفاجأ المتفرّج ولا أجترّ وأعيد ما سبقني إليه غيري. هذا يتطلّب عملاً وجهدا طويلا لأشهر وربّما لسنوات عديدة.

 

 

وهل لديك تصور للنجاح السينمائي؟
   أتصوّر أنّ سرّ نجاح عمليّة سينمائيّة في مخبريتها وتجريبيتها، وذلك حتى تتجاوز السّبل المعبّدة البالية. والتي تُرضّخ أساسا آليات، جسد، مدارك، ووعي الشّخصيات إلى ضرب جديد متجدّد من الإنتاج السينمائي، ومن الفرجة والتّفكير السّينمائي البديل. لذلك اخترت سلك الطّريق الطّويلة المعكوسة في شريط “جمل البرّوطة”، لكن كلّما طال الطّريق تجدّد المعنى. امتدّ هذا الطّريق على مدى ست سنوات، ربما شذت نسبيا عن القاعدة العامّة وأفكارها التي اجترّها الجيل السّابق، وخلّفها ميراثا لهذا الجيل المهزوم الذي أنتمي إليه، والذي أريد الخروج من كلّ قواعده بمحاولة البحث عن منهجيّة جديدة خارج المعادلات السّائدة. منهجيّة أخرى متمرّدة على الأفكار البالية، القديمة التي قد تكون رجعيّة، ومخلّة بالتّقدّم الفكري وبالذّوق. هذا ما جعلني أتساءل عن كيفيّة طرح مسائل هامّة خطيرة، سياسيّة بحتة، وأحاول صقل آليّات فنّية أخرى، وخلق مفاتيح جماليّة جديدة جدليّة، محاولا تعلّم كيفيّة التّعامل بها، ذاتي مع ذات الشّخصيّة أمام الكاميرا، بما أنّي أظهر في الشّاشة تارة شخصيّة وطورا مخرج، ونحاول سويّاً التّقدّم في وعينا، حتّى لا نسقط في “الشّعبويّة” وفي الشّعارات، والرّموز التّافهة، لأنّ كبار الكتّاب والمخرجين اللّذين دخلوا في مجال السّينما السّياسيّة، اشتغلوا بطريقة تربويّة ديدكتيكيّة، وذلك بتسمية الأشياء بأسمائها إلى أن يستوعب الإنسان معانيها ومقاصدها، حتّى لا أجد نفسي في فخّ الإسقاطات…

وماذا عن مقولتك “عليَّ ألاَّ أنسى أنني أمارس فن، وفن راقي”، هل  توضح أكثر؟
   عليّا عدم النّسيان بأنّ السّينما حتّى ولو كانت سياسيّة، يجب أن لا تفقد شاعريّتها. ومن هنا جاء اختياري الثّابت، بعد بحث طويل لأماكن التّصوير التي أردتها مغلّفة بالخوف والشّك والسّواد. داخل فضاء سينمائي فقير لفسح المجال لقوّة التّعبير. منذ البداية أردت التّقشّف. السّهل الممتنع، هو صعب، لكن سهل، كيف أصل إليه شيئًا فشيئًا؟ كذلك أردت إلغاء كلّ ما هو عنصر جمالي، ناتج عن إرادة في الدّيكور أبهِر بها المتفرّج، وربّما تخلق لديه انتظارات معيّنة. هذا الرهان جعل فضاءات الفيلم تزداد قتامة، وسوادًا، وجعل الكاميرا التي كانت في درجة من اليقظة، ومن الوعي ومن الانتظار، وشخصيّات الفيلم في درجة من العطاء، حتّى يتواصلوا. لأنّ هذا الاختيار يكاد يكون في كلّ وقت يكشف، ويعرّي الشّخصيات والمتفرّج. المتفرّج الذي حاولت أن أخلق لديه نوعا من الاضطراب، لأنّ وضع المرآة الذي سيجد نفسه فيه شيء هامّ للتّواصل. هذه منهجيّتي التي أتت مثل موجة من الغريق ثمّ عمّت على مشروعي الطّموح، عن المواطن التّونسي. مشروعي الذي قضّيت ست سنوات في مواجهته وفي مواجهة نفسي، وأنا أفكّر فيه محاولا وجود مدخل له.

 
هل تتبعت حياة هؤلاء الشخصيات في البدء ورصدتها وأقمت معهم صداقة ورسمت سيناريو – على الأقل مبدئي- لعملك؟ أم أنك كنت تترقب الفرص التي تتاح لك والهدايا السماوية؟
    المعالجة السينمائية التي قمت بكتابتها أولا، كانت تظهر المهنة منذ انطلاقها داخل المحمدية في عشرينات القرن الماضي حتى يومنا هذا، وذلك من خلال عائلة والدتي اللذين اخترت بعضهم شخصيات رئيسية لفيلمي، وبالفعل قمت بتصوير جدي 94 سنة، خالي 63 سنة، وابنه 22 سنة، وخال آخر 42 سنة، القاسم المشترك بينهم هو المهنة التي توارثوها أبا عن جد. هذا إضافة للعديد من الشخصيات الثانوية الأخرى التي تُظهر تعاقب الأجيال…  

 

وماذا حدث؟
   في داخلي كنت غير مقتنع، لأن أغلبهم كان غير مؤمن بفكرة الفيلم، وقَبِل التصوير مجاملة أو طمعا. استمر الوضع إلى أن ظهر خيري الذي لا يمت لي بأية قرابة، لكني أعرفه منذ طفولته، في تلك اللحظة شيء ما غامض في داخلي أكد لي أنه الشخص المناسب الذي أبحث عنه والذي ينتظره الفيلم، خاصة أنه كان متحمسا جدا للفكرة، وجاءت المبادرة الأولى من طرفه عندما اقترح عليا بطريقة غير مباشرة وذكية جدا تصويره. بعد جلسات عديدة ومطولة اتفقنا، لكني فوجئت به في اليوم الأول للتصوير يأتي رفقة محمد العقربي (وشواشة)، ويطلب مني تصويرهما معا، لا أعلم لماذا؟ لكني لم أتردد لحظة واحدة. من ثم واصلت الطريق معهما، رفقة عائلة والدتي.

 

هل ثمة تطورات أخرى استجدت على المشروع؟
سنة 2009 بدأت في الخطوات الأولى للمونتاج، في البداية كنت وفيا للمعالجة التي كتبتها، و ذلك رغم تركيزي الواضح على خيري ووشواشة، لكن وبعد أشهر طويلة في المونتاج تأكدت أنهما الوحيدان الأكثر قدرة على العطاء، والفهم. كذلك لديهما طاقة كبيرة. هذا ما جعلني أعيد كتابة الفيلم من جديد حتّى تمكّنت من السّيناريو، والفكرة الرّئيسيّة، والعمود الفقري، والتّفرّعات المُثلى. عدت للتصوير مرة أخرى وكان تركيزي التام عليهما، حتى تكلموا بكلّ حريّة، وبدون وصاية أو رقابة من أي طرف كان، انطلاقا من وعيهم بحاضرهم و بماضيهم، واهتممت أكثر بالوضعيّة التي يعيشونها، حتّى وصلت معهما بطريقة ملحميّة مباشرة لإتمام الفيلم، لأنّي أتصوّر أنّه من الهام جدّا تسمية الأشياء بأسمائها. إلى متى سنبقى مختبئين؟ إلى متى سنبقى في المجازيّ والميتافيزيقيّ وفي غير المباشر. لا، هناك سينما اسمها السّينما السّياسيّة. الاهتمام بشؤون المدينة، وكل فيلم يهتم بشؤون المدينة هو سياسي، سواء كان يتناول السياسة كمحور في الطرح أو يتكلم عن الإنسان في علاقته مع ذاته، مع الأخر، مع المجموعة التي ينتمي إليها، مع جسده، مع الشارع، مع التلفزة، مع الجرائد، مع المجتمع بصفة عامة في كل المستويات… كل هذا يسمى بـ”السينما السياسية”…

كيف نجحت في بناء تلك العلاقة القوية من الثقة مع العمال المطحونين الكادحين..؟ أعني أيضاً أن إقناعهم بالتصوير والحديث عن حياتهم بكل تلك المكاشفة لم يكن أمرا سهلاً، أو هكذا أعتقد؟
لأن العمال، سيدتي، هم عائلتي، ولدت و ترعرعت وما زلت أعيش بينهم حتّى يومنا هذا. لكن رغم ذلك لم يكن الأمر سهلا خاصة في البداية. حاولت خلق رابط متين معهم، مبني خاصة على الاحترام، الثقة، والحب، لأني أبحث عن علاقات إنسانية، حيث حاولت التّقرب إلى نفسيتهم، وتركت لهم حظهم في التّعبير عن كلمة حق، صادقة… لأنّي أردت إخراج هذا الفيلم معهم، وليس عنهم… كيف يعيشون؟ وجهة نظرهم؟ كيف يحاكمون، ويواجهون أنفسهم؟ وبالتّالي مصيرهم. ما هو معنى الحياة بالنسبة لديهم؟ وحاولت من خلال شّهاداتهم، ليس فقط إبراز حياتهم الصعبة ومشاكلها، لكن إظهار خاصة الأحاسيس المرهفة لديهم، ذكائهم، كرمهم، تربيتهم، وحبهم الكبير لكلّ ما هو جميل على هذه الأرض، وذلك في انسجام معهم دون الوقوع في فخّ التعاطف المزيف، أو الحكم عليهم! ما كان يهمّني هو تفهمهم.. وإظهار لا ثورتهم، رغم وعيهم بكلّ ما يحدث.

وهل تذكر موقفاً جعلك تتأكد من حقيقة شعورك السابق؟
   أتذكر في إحدى ليالي شتاء 2009  كان لدي تصوير في الساعة الثالثة فجرا، فوجئت حوالي العاشرة مساءا باختفاء الشاحنة وسائقها الذي اتفقت معه سابقا، كان رفقتي خيري ووشواشة بحثا معي عنه حتى وجدناه، لكنه رفض التصوير رفضا قطعيا..! شاهدا الحالة التي أصبت بها ولم يهدأ لهما بال حتى وجدا للفيلم سائق آخر وشاحنة مناسبة باللون الذي أريده وكل مستلزماتها. ليلتها تأكدت أني سأواصل إخراج فيلمي معهم و ليس عنهم، حيث حاولنا سويا إظهار ما هو مختلف جذّا، في الواقع هو غير مختلف، لكن لم نألف مشاهدته. في خطوات إلى الأمام، و أخرى إلى الوراء. وهو اختيار للبساطة التي تظهر اللحظات، حتّى آخرها، وذلك ليشعر المتفرج بذاته داخل الفيلم، حتّى تتمازج الصورة مع ما خارجها. ومن هنا اكتشفنا أننا نحمل غضبا شديدا، مثل ثلاثة أرباع الشّعب التّونسي، لأنّ دار لقمان في انهيار مع الأسف، والغضب ناتج من مسائل موضوعيّة، فأواصر الحوار انقرضت في هذه البلاد، ولا من مجيب… وهذا شيء مخيف جدّا…

تشكل الأغنية عموداً فقريا كاشفاً في رحلة “جمل البرّوطة” فقد جعلتنا نتعاطف مع البطلين كثيراً لأنها كانت انعكاساً لعالمهما، وتعبيراً عن وحدتهما، كانت الأغاني تجسيد لإحساس المرارة والخيانة والخذلان والظلم والقهر والاضطهاد الذي يعيشانه في بلدهما. فهل تعمدت أن تمنح الأغنية هذا الدور منذ البداية أم أنك اكتشفت أهميتها مع معايشة الشخصيات؟ 
بالنسبة لي كان من المهم جدا الاعتماد كليا في جانب من الفيلم على الأغاني التي يحبذها الشخصيات، لأنها تعكس وتحلل في جانب ما نفسيتهم. تركت لهم الحرية التامة في اختيارها خلال فترة التحضير والتصوير. لكن صراحة لم أكن أتصور أنها وحدها ستكون كافية في مصاحبتها لمشروعي، خلال المونتاج بحثت عن ملحن يستوعب نسق الفيلم ويحاول خلق موسيقى تصورية، لكني أدركت تدرجيا أن أي موسيقى أو أصوات أخرى ستكون دخيلة.

 

اخترت العنوان العربي لفيلمك “جمل البروطة” وكتبت أسفله بلغة انجليزية “الجورت” Elgort؟ لماذا؟
جمل البرّوطة، يدخلونه صغيرا داخل “البرّوطة”، وهي مكان مغلق دائري الشّكل، له باب صغير وبداخله بئر. يربط الجمل بلوح متّصل بالبئر, وتكون مهمته الدوران مغمض العينين حول تلك البئر، لإخراج الماء حيث يقضي سنوات عمره في الدوران، وذلك حتى يكبر في العمر والحجم، فيهرم، ويفقد قدراته الصّحيّة ويعجز كليّا على الدوران، وبالتّالي عن العمل. الباب الصغير الذي أُدخل منه صغيراً لم يعد يمكن أن يخرج منه، لأنّ حجمه تضخّم، لكن يجب إخراجه، فما العمل؟ هل يتم هدم “البرّوطة!؟ طبعا لا.. وسيكون الحل أن الجمل الذي أدخل على قدميه، سيتم إخراجه قطعا صغيرة بعد نحره، واستبداله بآخر. هذه العملية متواصلة منذ سنوات عديدة… يكاد يجمع أهالي بلدة المحمدية أنّ مَنْ يمارسوا المهن الفلاحيّة، داخل تلك البلدة، هم مثل ذلك الجمل في معاناته. يشتغلون داخل شاحنات أشكالها متشابهة. هذه الشّاحنات أشاهدها يوميا منذ خلقت أينما ذهبت داخل المحمّدية فهي إمّا ملأي بالعلف (ال?رط) أو فارغة. أحياناً أفاجأ باحتراق إحداها صيفا، وألاحظ أنّ الجميع داخل المنطقة، لا يتحدث إلاّ عن أسباب احتراق تلك الشّاحنة الميتة، ومصير صاحبها الذي بقي على قيد الحياة. كل ّمن يمارس هذه المهنة على اختلاف أصنافها يسمى (?راط)، و(ال?راطة) داخل المحمّدية يعدّون بالمئات. يتوارثون هذه المهنة عن آبائهم، ويخلفونها ميراثا لأبنائهم، حتّى ارتبط اسم المحمّدية بـ(ال?رط)، فمن يقول المحمّدية، يتذكر (ال?راطة).

 

هل تحكي عن طفولتك ونشأتك؟
عفوا، لا أحبذ كثيرا الأسئلة الشخصية. كل ما أستطيع قوله أن طفولتي كانت شبه عادية، وأني الولد الأصغر في عائلة محدودة الدخل كانت متكونة من تسعة أفراد ة ولي أخت توأم.
وماذا عن علاقتك بوالدتك التي أهديت لها فيلمك الروائي القصير الأول “الحياة إما بالأبيض أو الأسود”؟
علاقة رائعة، رغم الداء والانكسارات، كنت وما زلت طفلها المدلل…
وعلاقتك بوالدك؟ رؤيتك لعمله؟ إحساسك تجاه هذا العمل؟
علاقتي بوالدي كانت معقدة جدا، خاصة خلال سنوات حياته الأخيرة، احتدت الخلافات والمواجهات بيننا، لأنه كان رافضا لأغلب اختياراتي، لكنني كنت دائما متمردا. أما رؤيتي لعمله كانت جد سطحية قبل تصوير الفيلم، وذلك رغم مشاهدتي للعمال وللشّاحنات، يوميا منذ خلقت أينما ذهبت داخل المحمّدية. كنت أتصور أني أعلم عنها الشيء الكثير، لأنّ والدي أنفق أكثر من ثلاثين سنة من عمره يشتغل  داخلها، يتوسد (بالة ال?رط) ويستنشق رائحتها. عندما تعرّفت على كواليس وخفايا مهنته التي كانت تبدو لي ظاهريّا بسيطة وسهلة، فوجئت وصدمت بالتعقيدات والصعوبات التي تعترض (ال?راطة) عند ممارستهم لعملهم، حتّى تجبرهم على الانتقال من شخصيّة إلى شخصيّة، من مزاج إلى مزاج، من وضعيّة إلى وضعيّة، من منطلقات إلى منطلقات، وبالتّالي من تاريخ إلى تاريخ. حاولت تفهم والدي، لأني لو كنت مكانه لرفضتها، رغم احترامي الكبير لكل من يمارسها.

هل معاناة والدك في تلك المهنة لعب دوراً  في اختيار فيلمك الأول الوثائقي؟
أكيد، اختياري للسّينما ولهذا الموضوع جاء انطلاقا من وعيي النّسبي طبعاً، لمشاكل الإنسان التونسي، لتطلّعاته، هواجسه، مشاكله، تناقضاته، أحلامه، نكساته، وحتى لا أموت قهرا ذات صيف مثلما مات والدي، الذي بقي يمارس هده المهنة لسنوات طويلة دون أي اعتراف به. ربما أعلم جيدا ماذا أعطى والدي لوطني، لكني لا أعلم ماذا أعطى وطني لوالدي، في هذا الفيلم حاولت المعرفة. كان هذا هو شغلي الشّاغل الذي وضعت فيه أمّهات المشاكل التي أعتبرها أساسيّة. ولأنّي أؤمن بسينما الآن والهُنا، وأكره الإسقاطات والغمز واللّمز، وأريد تسمية الأشياء بأسمائها.

متى وكيف جاء حبك للسينما؟ قلت أنك مريض بالسينما أي عاشق لها فما الذي أغرمك بها بهذا الشكل الرائع؟
  لا أعلم بالضبط كيف ولماذا جاء حبي للسينما التي أكرهها؟ أتذكر أول فيلم شاهدته في طفولتي على حائط المدرسة الابتدائية، أصبت بصعقة حب سينمائية، فيها الكثير من الدهشة والإبهار. وكان سؤالي حينها، من خلق هذا؟ الإجابة كانت المخرج. هكذا وبدون أي تفكير واضح اتخذت قراري بأن أصبح مخرجا سينمائيا. لكن ذلك العرض كان الأول والأخير، وبقي الحلم في داخلي حتى فترة المراهقة. توطدت علاقتي بالسينما على حائط دار الثقافة حيث كانت تبرمج أسبوعيا عروض لأفلام مختلفة، اكتشفت خلالها سينما العالم، لم أكتفي بهذا بل كنت أتحول سرا لتونس العاصمة لمتابعة أحدث الأفلام في القاعات.

   
عندما يتأمل الفرد عملك يشعر بيقين كبير أنك المثقف العضوي كما وصفه جرامشي… هل كنت يوما في أحلامك تفكر في هذا؟
صراحة لا. تصوير الفيلم تمّ داخل أراضي البلاد التونسية، وخاصة داخل بلدة المحمّدية. هذه البلدة التي أعرفها جيّدا. فيها وُلدت وكبرت مع خيط الزّمن، ومازلت أعيش داخلها إلى اليوم. اختياري لموطني ولوطني ينبع من اختزال، وربّما من فهم ومن هضم للأعمال السّينمائية العالميّة الكبرى التي كانت انطلاقتها من آنِها وهُناهَا، من ذاتها، ومن إنسانها، وارتقت بالفن إلى ضرب جديد متجدّد من ضروب العالميّة.

وبماذا تحلم الآن؟ وكيف ترى مستقبلك؟
أتمنى أن يكون حلمي جماعي، وليس فردي، فهو مرتبط أساسا بالدّورة الجديدة القادمة، لأنّها أهمّ بكثير من هذه الفترة الانتقالية، وذلك بمساهمتي في مجتمع آخر بديل قوامه الثّقافة، الثّقافة، والثّقافة. لكن للأسف الشّديد، لاحظت أنّ ما يسمى (الثّورة) في تونس بدأت تنحرف على مفهومها، وذلك بركوب قوى ظلّاميّة عليها… وأخذت منعرجا خطيرا رجعيّا وهي مهدّدة. لكن إذا هُدّدت بأيّ صفة كانت فإنّي ولست وحدي لها بالمرصاد، عين يقظه نُواكبها بحذر وبروح نقديّة مثلما واكبنا النّظام السّابق بروح نقديّة. لأنّ السّينما، الفن بصفة عامّة نقدي، تحليلي أو لا يكون…

كيف عرفت بخبر محاولة انتحار خيري؟ وكيف تلقيت الخبر، بمعنى هل ترددت في تصويره بعد الانتحار أم حسمت أمرك؟ 
لم ولن أنسى تلك الليلة عندما رن جرس هاتفي وجاء معه ذلك الخبر كالصاعقة. صدمت، ودخلت في حالة هستيرية لا أستطيع وصفها، فقد كان معي منذ ساعات ولأول مرة بكى. لم أفكر في الفيلم، كل همي كان إنقاذه وعدم اعتباره رقما يمضي. رفضت تصويره داخل المستشفى رغم إلحاح الأصدقاء، كذلك رفضت استعمال الصور التي التقطها أحد الشبان له عند إضرامه النار في جسده. غريزة المخرج عادت إليَّ عندما بدأ يتماثل للشفاء تدرجيا.

   
في الوقت الذي وصلك فيه خبر محاولة انتحار خيري هل كنت قد بدأت في مرحلة المونتاج؟ أم أنك كنت لاتزال في انتظار باقي التمويل للانتهاء من العمل؟
آنا ذاك كنت في حالة بطالة، وكان الفيلم مجمدا في انتظار التمويل، لكن قبل تلك الفترة بأشهر كنت قد انتهيت من مونتاج أولي.

ما هو إحساسك بعد الانتهاء من الفيلم؟ 

 
أتذكر في مهرجان أبو ظبي السينمائي، قبل أول عرض عالمي للفيلم بساعة انتابني شعور غامض رافض لفكرة العرض، ربما لأن فترة المخاض قد طالت، وبدأت أدرك لأول مرة أن الفيلم لم يعد ملكي، بل سيصبح ملكا للجمهور. لكن أثناء وبعد العرض كانت فرحتي لا توصف.

 

 
هل كنت تتوقع حصولك على جائزة «أفضل مخرج من العالم العربي» عن «جمل البرّوطة» في قسم الوثائقي في الدورة السابعة لمهرجان أبو ظبي 2013؟
حقيقة لا، لم أتوقع. الجائزة أسعدتني وفاجأتني كثيرا، لأني أتصور أنها أمنية لكل مخرج خاصة إذا كان في بداية طريقه. كذلك في نفس المهرجان كانت جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما “فيبريسي” والتي أعتبرها هامه جدا.

بعد أن انتهيت من الفيلم وعرض هل شعرت بأنك تأثرت بهؤلاء الشباب؟ وماذا عن إحساسك تجاههم  فهل تشعر أنك تركت فيهم أي أثر إيجابي؟
النماذج التي ظهرت بالفيلم تبدو واعية بحقوقها، رغم فقرها وعلى ضعف مستواها الثقافي والاجتماعي فهي تدرك ما يتم من حولها من نهب وسرقة وظلم، لكنها غير قادرة على الفعل، فأصبحت لامبالية.
سؤالي أقصد به: هل الشخصيات كانت منذ البداية تتمتع حقاً بهذا الوعي أم أنك ساهمت في تنمية هذا الوعي أثناء نقاشك معهم وطرح أفكارك بشأن العدالة الاجتماعية؟
شخصيات فيلمي واعون جيدا بكل ما يحدث. لكن رغم هذا حاولت أن أرتقي بنفسي وبفني معهم إلى ما هو أحسن، استجابوا لطلبي وللمستوى الذي أردت الوصول إليه معهم. عندما لا تستهزئ بالناس، ولا تحرك السواكن البدائية لديهم وتتحدث معهم الند للند ككهول، وكأشخاص قابلين للتوعية، قابلين أن تتفتح بصيرتهم أكثر، وتوصل لهم الشيء الذي أنت مقتنع به وتحاول التجادل معهم، يستجيبون لك بصفة غريبة…

رأيك في دور المثقف وتأثيره؟ هل يُعوّل عليه في مجتمعاتنا العربية الآن؟
دور المثقف مثل دور المعلم والأستاذ والطبيب وغيرهم، وذلك بمحاولته المشاركة في الدورة الاقتصادية والفكرية، وبمساهمته في الارتقاء وتطوير الذوق العام وخلق نهضة فكرية وفنية، لأن الشعوب لا تتقدم بالقمع وبقطع اللسان. أتصور أنه من واجبه رفض الرقابة رفضا قطعيا، إذا أراد التقدم بالفعل الثقافي والفكري، حتى لا تكون أعماله رتبة، منمطة، غير متطورة، وفي متناول الذوق المتعارف والمنمط. بهذه المجازفات، وبهذا التمرد والتطاول على الرقابة من الممكن أن يعول عليه في مجتمعاتنا العربية الآن حتى يفرض أرضية عمل وتناول وتوجه…

ورأيك في الدور الذي لعبه الفيلم لهؤلاء الناس بعيدا عن تأثيره المهم في تحليل الواقع المجتمعي؟ أقصد هل يمكن أن يلعب دوراً في تغيير حيواتهم ولو قليلاً؟
أتمنى ذلك. رافقني خيري ووشواشة في العروض التي صارت في تونس، شاهدت وأحسست نشوة كبيرة على وجهيهما خلال اللقاءات التي كانت مع المتلقي. خلال العرض الأول للفيلم في أبو ظبي، خيري كان يرتعش طوال مدة العرض، ولا أستطيع وصف حالته المتوترة قبل إعلان النتائج. كذلك كان المرافق الوحيد للفيلم إلى أغادير بالمغرب، وكان له نقاش ثري مع الجمهور فاجأ الجميع.

 
في عام 2006 أنجزت فيلمك الروائي القصير الأول «الحقيقة بالأبيض والأسود»، وهى فكرة ذكية ولماحة وتم معالجتها بسيناريو بسيط ومعبر. ثم بدأت في “جمل البروطة” منذ 2007 الذي استغرق منك خمس سنوات، فأين كنت طوال كل هذه المدة؟
عندما بدأت فيلم جمل البروطة في 2007 كنت أتصور أنني سأكمله خلال سنة، لكن من يعتبرون أنفسهم “منتجون” في تونس غارقون في رقابة ذاتية يفرضونها على أشباه المخرجين. رقابة أرفضها رفضا قطعيّا، لأنّها ليست رقابة على الذّوق السّليم، وعلى الأعمال الهابطة بالنّسبة للأعمال المتقدّمة. لا، هي رقابة على الأفكار. بصفتهم جهاز رسمي تابع لأي نظام ويدعون الاستقلالية (المنتجون التعساء)، اعتبروا أنفسهم أوصياء على السينما في تونس، وحددوا قائمة من الممنوعات التي لا بد من التصدي إليها، يجب أن يفهمها المواطن الفنان. لم نتفق على القائمة، فما يعتبرونه هم يجب أن لا يشاهد من طرف الجمهور بالنسبة لي هو ما يجب أن يشاهد. ليست الأشياء المخلة بالأخلاق أو دستور البلاد أو الدين الحنيف، ولكن الأشياء التي قد تكون مخلة بالمعرفة، بالجدلية، بالدوجمائية… فالإنسان عندما يفكر وهو فنان أن هناك أشياء لا يمكن قولها لا يستطيع ممارسة عمله. لكلّ هذه الأسباب وغيرها، مُنعت من ممارسة حقي في الشغل، ولأني أريد أن أكون فنّان مستقلّ، ولأنّ الاستقلاليّة نسبيّة، طلبتها وأخذتها من ذاتي. لكن الاستقلال الفنّي في تونس وحتّى الآن للأسف الشّديد، سياسيّا مكلف، لأنّي وجدت نفسي داخل قائمة سوداء لمطاردة السّحرة، فهناك من اعتبرني كأنّي مجرم حرب، وغير وطني.

عرفت أنك تعمل الآن في مرحلة ما بعد الإنتاج على فيلم وثائقي طويل يحمل عنوان «إل مديستانسي» فهل حقاً بدأت العمل عليه عام 2005.؟ وما هي فكرته وقضيته؟
شريط (المدسطنسي) الذي بدأت تصويره سنة 2005، هو محاولة فهم دون إقصاء أو تحامل لحقبة من تاريخ تونس، على أيّ شيء بُنيت، ما لنا، وما علينا، ما الذي حقّقناه؟ وما الذي لم نحقّقه؟ كذلك هو تقييم من وجهة نظر غير رسميّة طبعا، لأنّ التاريخ مهمّش، والحقائق منبوذة. لا نتحدّث عن كل شيء في كلّياتنا، معاهدنا ورياض أطفالنا. هناك تاريخ رمزي رسمي، وهناك تاريخ حقيقي. كيف نتحدّث عنه؟ كيف نتحدّث على المواطن التونسي، ونحمّله مسؤوليّة الحالة التي وصلت إليها البلاد والعباد، وذلك رغم ما نعترف به له من دفاع على قيم كبيرة، وعلى مواجهة وعلى أجساد كانت رهينة لنضالات مختلفة. الفيلم يريد التّحدّث على المسؤوليّة الفرديّة والمسؤوليّة الجماعيّة. سهل جدّا أن تطالب غيرك، لكن ماذا لو تطالب نفسك قبل أن تطالب غيرك؟ وتحاول فهم ما هو منك وما هو من غيرك؟ لأنّ الإنسان الذي لا يحاسب نفسه، ليس لديه الحق بأن يحاسب غيره. إذن الفيلم يحرّض على المطالبة بالحرّية، وفي نفس الوقت يحرّض على المطالبة بأخذ المسؤوليّة، وبالاعتراف بأنّها فرديّة قبل أن تكون جماعيّة، ثمّ تذهب جماعيّة ثمّ تعود فرديّة. وهكذا دواليك، جدليّة الفرديّة والجماعيّة.
 

ولماذا استغرق كل هذه السنوات من العمل؟ 
استغرق كل هذه السنوات من العمل لأن مافيا(المنتجين) التعيسة مازالت مسيطرة على الأفلام التونسية، فحتى الآن لا يوجد لدينا لا منتجون ولا سينما، ففي تونس شروط الاستمراريّة التي توفّر سلامة المهنة مازالت لم توجد بعد، تحضر، وتغيب. شخصيّا ما زلت أحاول وبعد الذي صار قبلي أساساً تأسيس كيان، تراث سينمائي معاصر، رفقة أشخاص يجب أن تتوفّر لديهم ضمانات من التّكوين، للتّوزيع، للتّشريع، للإنتاج، للتّمويل وللتّأثيث، ضمانات موجودة في البلدان الأخرى المتقدّمة. الإشكال لا يتمثّل في إنتاج عمل مهمّ يُقبل عليه الجمهور فقط، لكن كذلك الأماكن التي يُقدّم فيها. مشكلة التّشريعات، التّوزيع والتّسويق مشكلة كبيرة جدّا في تونس، وربّما أكثر من الإنتاج، لأنّ قاعات العرض تكاد تكون منعدمة. (عدد قاعات العرض في كامل الجمهوريّة التّونسيّة لا يتجاوز 15.)


إعلان