جندي .. في متاهة العدو
لندن / عدنان حسين أحمد

تحتضن مسابقة الفيلم الأول في الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان لندن السينمائي الدولي (12) فيلماً روائياً طويلاً من بينها “ماكوندو” للإيرانية الأصل سودبيه مرتضائي، و “ذيب” للأردني ناجي أبو نوار و “71” للمخرج البريطاني المولود في فرنسا يان ديمانج وهو مدار بحثنا ودراستنا النقدية.
وعلى الرغم من أن كاتب السيناريو غريغوري بيرك قد نأى بنفسه عن التاريخ لمصلحة الموقف المأساوي الذي يمرّ به البطل غاري هوك الذي جسدّ دوره ببراعة نادرة الفنان جاك أوكونول، إلاّ أنه من الضروري بمكان أن نشير بشكلٍ خاطف إلى أحداث الشغب التي وقعت في بلفاست عام 1971 وراح ضحيتها العديد من المواطنين الأبرياء، الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية لأن ترسل بعض الوحدات العسكرية لحفظ السلام في بعض أحياء بلفاست المضطربة.
وكما هو معروف فإن آيرلندا التي كانت خاضعة للسيطرة البريطانية قد تمّ تقسيمها بعد نيل الاستقلال، والمصادقة عليه، والاعتراف به من قبل الحكومة البريطانية عام 1922 حيث بقي القسم البروتستانتي الشمالي (ألستر) تحت السيطرة البريطانية أما قسمها الكاثوليكي فقد تحوّل إلى إقليم ذاتي قبل أن يظفر بالاستقلال.
لم يرد، لا كاتب النص ولا مخرجه، أن يدسّا أنفيهما في القضايا التاريخية لأن مضمون الفيلم لا علاقة له بالتاريخ. كما أنهما بعيدان عن اتخاذ المواقف السياسية التي تنتصر لهذا الطرف أو ذاك. أما همّهما الرئيسي فكان مُنصباً على قضية إنسانية محض لجندي أعزل وجد نفسه مُحاصراً في بيئة معادية وعليه أن ينقذ نفسه من المأزق الكبير الذي وقع فيه، ويفي بوعده الذي قطعه لأخيه الأصغر بأن يعود سالماً من هذه المهمة التي بدت له غامضة بعض الشيئ قبل أن تنزاح عنها الحُجُب وتتكشّف فيها المعميات.
وإذا وضعنا التاريخ والسياسة جانباً فإن الهمّ الإنساني هو الذي يتسيّد في هذا الفيلم. ونعني بالهمّ الإنساني القلق الوجودي بأقصى تجلياته، ومحاولة البقاء على قيد الحياة كحق طبيعي لأي كائن بشري حتى وإن كان مقاتلاً في بيئة معادية أو في محيط ثائر يسعى لتقرير مصير شعبه، واستقلال دولته تماماً كما هو الحال في آيرلندا التي استقلّ قسمها الكاثوليكي فيما ظل قسمها البروتستانتي منضوياً تحت سلطة التاج الملكي البريطاني.
يُشكِّل الانتماء الطبقي لغاري هوك بوصفه يتيماً تربى في منزل للأطفال وهو ذات المنزل الكئيب الذي يقيم فيه شقيقه الأصغر ديرين (هاري فيرتي)، يشكّل إحالة واضحة إلى طبيعة الناس الذين ينتمون إلى المؤسسة العسكرية في المملكة المتحدة في الأقل وسوف يكونون عُرضة للموت المجاني بحجة الدفاع عن المصالح البريطانية في الأماكن المضطربة سواء أكانت هذه الأماكن داخل حدود المملكة أم خارجها. فلقد بحث هذا الشاب اليتيم عن مهنة مريحة بعض الشيئ لكنه لم يجد أمامه سوى الخدمة العسكرية كوسيلة لتأمين هاجس العيش في بلد رأسمالي. وما إن يُنهي تدريباته العسكرية حتى يجد نفسه، هو وفصيله العسكري، في بلفاست، التي تخضع للاضطرابات وأعمال الشغب بسبب الاحتكاكات الطائفية بين البروتستانت الموالين للحكومة البريطانية والقوميين الكاثوليك المطالبين بالتحرر والاستقلال. آخذين بنظر الاعتبار أن الشق الثاني يضم (الجيش الجمهوري الآيرلندي) ومعارضين آخرين أكثر تطرفاً سوف يزيدون الطين بلّة.
متاهة غامضة

تنطلق شرارة الأحداث إثر إخفاق الجهة الأمنية المحلية في مداهمة منزل في القسم الكاثوليكي من المدينة حيث تعتقد هذه الجهة بوجود أسلحة وذخائر. لكن ما إن تخرج النساء بمشهد شديد الإثارة والجمال ويبدآن بدقّ الأرصفة بالأغطية المعدنية لصناديق النفاية حتى ينفلت الجميع حيث يشرع الأطفال برمي الحجارة، فيما يُطلق الشباب زجاجات المولوتوف الحارقة فتحتدم المواجهة بين المواطنين الكاثوليك والفصيل العسكري لتصوغ الثيمة الرئيسة لقصة الفيلم التي سُتدخلنا بدورها في متاهة غاري هوك.
في ذروة هذا التوتر يسقط “ثومو” (جاك لودِن)، صديق غاري هوك، فيلتقط أحد الأطفال بندقيته ويوّلي هارباً، فيكلفه قائده الملازم آرميتاج (سام ريد) بمساعدة صديقه “ثومو” واستعادة البندقية المسروقة. وفي خضمّ هذا التداخل والانفلات الأمني يجد غاري وثومو نفسيهما وحيدين وأعزلين حيث يُقتل ثومو من قبل اثنين من عناصر الجيش الجمهوري الآيرلندي بينما يتعرض غاري إلى ضرب مبرّح من قبل مجموعة كبيرة من الناس لكنه ينجح في الإفلات منهم ليضيع في متاهة هذه المدينة الغامضة التي لا يعرف أزقتها وشوارعها ولكنه يبذل قصارى جهده كي يبقى على قيد الحياة. أما الفصيل العسكري فينسحب لسبب لا يعرفة غاري الأمر الذي يعمّق محنته ويتركه وحيداً في مواجهة مصيره المجهول خصوصاً وأن اثنين من أفراد الجيش الجمهوري الآيرلندي يلاحقانه بكل ما لديهما من صبر وقوة وإصرار.
وعلى الرغم من نجاته منهما في خاتمة المطاف إلاّ أنه يظل يدور في جوف المتاهة المخيفة بعد أن خلع بذلته العسكرية وارتدى ملابس مدنية لم تسعفه في إخفاء حذائه العسكري الذي يكشف عن هُويته المخبأة التي لا تخفى على مقاتلي الـ “آي. آر. أي”. ومن حسن حظه يلتقي غاري مصادفة بالطفل البذيء اللسان كورَي ماكينلي الذي يُصدر الأوامر لبعض المجموعات المناوئة للسلطة في تلك المنطقة، وحينما يكتشف أن غاري جندياً بريطانياً يقترح عليه إخراجه من هذه المتاهة وإيصاله إلى منطقة قريبة من ثكنة فصيله العسكري. يتردد غاري بعض الشيئ لكن قلبه يطمئن لهذا الصبي الذي يمتلك مساحة إنسانية كبيرة في داخله دفعته لإنقاذ جندي وحيد وأعزل ومحاصر في آنٍ معاً.
ثمة أسئلة بسيطة يطرحها هذا الصبي لكنها شديدة الدلالة وعلى رأسها سؤاله إن كان غاري كاثوليكياً أم بروتستانتياً؟ فيرد عليه بكل صدق: إنه لا يعرف حقاً المذهب الديني الذي ينتمي إليه، فهو شأنه شأن آلاف مؤلفة من الناس وربما ملايين لا يمارسون الشعائر والطقوس الدينية، وبالتالي فهم ينتمون إلى المملكة المتحدة ولا يعرفون انتماءً لغيرها.
تتعمق العلاقة الإنسانية بين غاري والصبي الذي يقوده إلى بار فيكتشف القائمون عليه أن جندي بريطاني. وفي خلفية البار ثمة قنبلة مؤقتة ستنفجر لاحقاً وتقتل كل من في البار بما فيهم الصبي الذي أنقذ حياته. أما غاري فقد صادف أن يكون خارج البار بمسافة ليست بعيدة. وحينما تنفجر القنبلة يُصاب هو الآخر بجرح كبير في بطنه الأمر الذي سيعرقل عملية هروبه.
لم يتخلَ غاري عن الصبي إذ أخرجه من البار المحترق وأدخله في سيارة صغيرة كي تقلّه إلى المستشفى، أما هو فقد خارت قواه وسقط مغشياً عليه بعد أن اتكأ على أحد الجدران. ومن حسن المصادفة أيضاً أن ريتشارد دورمر وزوجته كانا في طريقهما إلى البيت فشاهدا غاري مغمىً عليه. وعلى الرغم من اعتراض زوجته على محاولة إنقاذه إلاّ أن ريتشارد حملهُ إلى بيته، وخيّط جرحه العميق من دون أن يأبه بالتبعات القانونية لإيواء جندي بريطاني في بيئة كاثوليكية معارضة.

لقد خدم ريتشارد عشرين عاماً في طبابة الجيش البريطاني وضميره الطبي، إن صح التعبير، لا يسمح له بعدم معالجة شخص جريح حتى وإن كان مناوئاً له أو يقف على الضفة المقابلة من قناعاته الشخصية. لن تمرّ هذه الحادثة مرور الكرام فعناصر الجيش الجمهوري لما تزل تبحث عنه في كل مكان. وبما أن عيونهم السرية مبثوثة في أرجاء المدينة برمتها فإنهم يتوصلون إليه في خاتمة المطاف بعد أن تسيل دماء كثيرة لكن مقاتلي فصيله وبعض القوى المؤازرة لهم يشنّون هجوماً مدروساً بعناية فائقة ليحرروا غاري من أسْره بعد أن خلّفت الكدمات والضرب المبرّح آثارها الواضحة على معالم وجهه.
ربما كان غاري هوك راضياً بكل شيئ على الرغم من الانكسارات الفادحة التي تعرّض لها لكنه عاد في خاتمة المطاف لأخيه الصغير الذي لما يزل يعيش في بيت الأطفال الكئيب ذاته وربما لا يجد هو الآخر وسيلة مريحة لكسب العيش سوى الانخراط في الجندية التي سوف تجعل منه ضحية محتملة في بيئة معادية، ومتاهة موحشة لا يستطيع الخروج منها بدون دليل.
ملاحظات نقدية
يرى العديد من النقاد والصحفيين السينمائيين أن السيناريو الذي كتبه غريغوري بيرك لهذا الفيلم كان مُقتصداً، ومُوجزاً، ومتقشفاً في الحوارات والتفاصيل الأخرى المعروفة في القصة السينمائية برمتها. وأنه يركزّ فقط على الجانب الإنساني لشخصية غاري هوك لما تنطوي عليه من محمولات وجودية ونفسية خطيرة، بينما أهمل عن قصد الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية. وأنا أعتقد من وجهة نظري المتواضعة أن التركيز على الجوانب الإنسانية هو السبب الرئيسي في نجاح الفيلم الذي آزره بطبيعة الحال التصوير الفذّ لأنتوني رادكليف الذي صوّر فيلم (Pride) للمخرج البريطاني ماثيو ووركاس وأبدع فيه، هذا إضافة إلى أهمية المؤثرات الصوتية والبصرية، ناهيك عن براعة الأداء الذي تألق به هذا النجم البريطاني “جاك أكونول” وكان أنموذجاً للفنان المبدع الذي يحاول تقديم كل ما لديه من إمكانيات أدائية معبّرة ومتميزة.