أمريكا تخسر معركتها مع الطعام

الصورة التي يُقدمِها الفيلم التسجيلي الأمريكي “فيد أب” للمخرجة ستيفاني سوجتغ، لعلاقة المجتمع الأمريكي بالطعام هي في مجملها متشائمة كثيراً، بل تكاد أن تكون الأكثر قتامة مُقارنة بجميع أفلام الطعام التسجيلية السابقة من العقد الأخير. أحد الخبراء الأمريكيين الذين تحدثوا في الفيلم وصف علاقة شركات الغذاء العملاقة (بهيكليتها ومفاهيمها وأُسس عملها الحاليّة) بالأمريكيين، بالحرب غير المُعلنة التي تنال من صحة أبناء جلدته وتتركهم مكشوفين للأمراض، التي تقترب اليوم من مرحلة الأوبئة، وأن الحكومة الأمريكية التي تذهب إلى مشارق الأرض ومغاربها للدفاع عن البلد ضد أعداء واضحين أو محتملين، تترك هذا “العدو” الداخليّ يواصل حربه الشرسة ضد مواطينها، وأحياناً تعينه فيها. خبير آخر يقول بأن عدد المتوفين بسبب أمراض السمنة المُفرطة في الولايات المتحدة هو، ومنذ سنوات، أكبر من ذلك الذين يقتلهم الجوع في البلد، وأن القادم يحمل تهديدات أكبر، خاصة مع غياب الحلول وتعقيد مستويات الأزمة.
يُشير التكثيف الذي قُدمت فيه مادة الفيلم التسجيلي إلى الجهد البحثي المُعمّق للمخرجة في الأوجه المتعددة لموضوعها السينمائي. هي، وكما تكشف في إفتتاحية فيلمها الأخير هذا، لم تتخيل يوماً أن يتحول اهتمامها بالطعام الذي نتناوله والذي بدأ مبكراً، إلى تيمة لحياتها المهنية القادمة (شاركت في إنتاج وإخراج فيلمين عن الطعام). تربط المخرجة بتمكن كبير بين الماضي والحاضر، وتحاول أن تتعرض للوجوه العديدة لمشكلة الطعام وعادات تناوله الحديثة في بلدها، في زمن الفيلم المحدود (يقترب من ساعة ونصف)، وهي مُهمة كبيرة وتتطلب وعيا كبيرا بتركيبة الفيلم التسجيلي التحقيقي، إضافة إلى فهم عميق للموضوع المُقدّم. تربط المخرجة بين مفاصل فيلمها وحواراته العديدة مع شخصيات مهمة، بيوميات سجلتها لأطفال ومراهقين من طبقات اجتماعية أمريكية مختلفة، يعانون جميعاً من أمراض البدانة المُفرطة، لتكون قصص هؤلاء، الوجه الإنساني الذي يحتاجه الفيلم لترجمة الأرقام والإحصائيات التي يقدمها، وبيان أثرها في الواقع المُعاش.

وإذا كانت أفلام تسجيلية عديدة سابقة (معظمها أمريكية الإنتاج) تناولت جزئيات معينة من موضوعات البدانة الشديدة لكثير من الأمريكيين والأمراض التي تصاحبها وعلاقتها بالعادات الغذائية، نجح فيلم “فيد أب” في التعرّض لعدة جوانب من الموضوع في الآن ذاته وبتمكن كبير، فهو يتناول أثر السكريات و المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة أغلب الأطعمة التي يتناولها الأمريكيون، وكيف أن الإقبال عليها هو نوع من الإدمان على مادة السكر غير الصحية الموجودة ضمن مكوناتها، وأن الإدمان على المنتجات تلك، لا يختلف كثيراً عن الإدمان على المشروبات الكحولية أو المخدرات. كما يركز الفيلم على المدارس والإعلام، ودورهما فيما يحدث للأطفال الأمريكيين منذ عقود عدة، فمعظم المدارس هناك تملك فروعاً لمطاعم الأكلات السريعة السيئة الصيت، والإعلانات عن هذه النوعية من الغذاء تكون في المدارس نفسها، وفي الشوارع ومحطات التلفزيون. كما سيتناول الفيلم محاولات أمريكية لوقف تدهور الوضع في أمريكا، وآخرها مبادرة زوجة الرئيس الأمريكي: ميشيل أوباما، لتوعية الأطفال بالغذاء الصحيّ والرياضة، والتي حظيت ببعض النجاح. وفي السياق ذاته، يقدم الفيلم محاولات فاشلة لمؤسسات أمريكية لوقف هيمنة شركات مشروبات غازية عملاقة مثل “الكولا كولا”، والتي لم تصل أبداً إلى مرحلة تشريعات قانونية لتقنين حضورها الإعلامي أو جعلها تدفع ضرائب أكثر لتسديد بعضا من نفقات العلاج الطبي الذي تسببه السمنة في البلد، لقوة تلك الشركات ونفوذها المتسلل في معظم الأحزاب السياسية، بل إن الفيلم يكشف كيف أن شركات المشروبات الغازية والأطعمة السريعة ساهمت في تمويل دراسات علمية في جامعات، في بحوثها عن مضّار الأطعمة السريعة والسكريات على الصحة، للتحكم في ما يصدر عن تلك المؤسسات العلمية، وبالتالي تسيّر الرأي العام ومنعه من معرفة الأثار الحقيقية للمشكلة.

ورغم أن التشاؤم يلف مُعظم زمن الفيلم، إلا أن هذا الأخير لم يشأ أن يترك مشاهديه مع رسالة يائسة تماماً، فهو يمرّ أيضاً في قسمه الأخير على بعض من المبادرات الأمريكية المتوسطة النجاح لوقف الانحدار المُريع للعادات الغذائية الأمريكية، فهناك من يحاول الترويج للطبخ الصحيّ وباستخدام المواد الطبيعية وليست المُعدّة مسبقاً في معامل الغذاء، وهناك ناشطون ينشغلون منذ سنوات طويلة في محاولات تغيير الطعام المجانيّ الذي يُقدم في المدارس الأمريكية، وإبداله بأخر صحيّ، وبدل الوجبات السريعة التي توزع في أغلب المدارس. لكن المُهمة تبقى صعبة كثيراً. يعترف بهذا الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، الذي ظهر في الفيلم، وأقرّ بتقصير حكومته وقتها في الوقوف في وجه شركات الطعام العملاقة. تبدو أمريكا بحاجة لثورة مفاهيم جذرية لتغيير عادات الناس، وبالخصوص الأطفال، الذين رافق الفيلم ثلاثة منهم في محاولاتهم لتخفيض أوزانهم، لكن ما بدا أنه نجاح بسيط (إذ تخلص الأطفال من بعض الكيلوات)، عاد الفيلم ليخبرنا في خاتمته أن الأطفال استعادوا الأوزان التي فقدوها بعد أشهر قليلة فقط. فالأكل الصحي والمحافظة على الوزن المثاليّ، يُعدّ اليوم، من أصعب التحديات في الدولة الأكثر نفوذاً في العالم.
يَنضّم فيلم “فيد أب” إلى مجموعة كبيرة نسبياً من الأفلام التسجيلية التي تتناول موضوعات الغذاء في الولايات المتحدة. تتفاعل هذه الأفلام بشكل عام مع الحقائق العلمية المتوفرة، لذلك يُمكن أن يكون قسم كبير منها ما يشبه النسخة الحديثة المُجددة من أفلام الاعوام السابقة. هناك بالطبع استثناءات خرجت من شكل التحقيق التلفزيوني وسلكت مُقاربات مختلفة، كالفيلم المعروف “سوبر سايز مي”، للمخرج الجدليّ مورغان سبورلوك، والذي قام بتجربة فريدة إذ التزم، وعلى طوال شهر كامل، بنظام غذائي قوامه الطعام المصنوع في مطاعم ” ماكدونالدز”، في محاولة جديدة لكشف الأثر الصحي السيء لمأكولات هذه الشركة. هناك أيضاً فيلم “فود. إنك” للمخرج الأمريكي روبرت كينيير، والذي قدم مشاهد فنيّة مُؤثرة وتبقى في البال عن طرق تربية الحيوانات، المُعدة للذبح والاستهلاك البشري، للشركات العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية.