عُملة المُستقبل الإفتراضية

 

محمد موسى

الجنيّ خرج من القارورة، هكذا وصف أحد المتحمسين للعملة الإفتراضية “بيتكون”، المسار المتصاعد لهذه الأخيرة في السنوات الأربع الماضية والذي لن يوقفه شيء حسب الشاب الأمريكي. هذا رغم أن الفيلم التسجيلي الأول عن هذه العملة، والذي حمل عنوان “الصعود والصعود للبيتكون” ختم زمنه بنهاية متشائمة لما آل إليه الإختراع الجديد في العام الماضي من مشاكل وعراقيل كبيرة، ومرَّ على التحديات الهائلة التي مازالت بإنتظاره، كما أن الفيلم وجد صعوبات كبيرة في شرح موضوعه للمشاهدين، وبالخصوص طريقة عمل هذه العملة للذين لم يسمعوا بها، فاستعان في افتتاحيته، وبذكاء يُحسَب له، بمشاهد لتغطيات إخبارية  أمريكية من بداية عقد التسعينات للاختراع الجديد حينها: الإنترنت. تُبيّن المحاولات التي قام بها مذيعون تلفزيونيون عاديون لشرح “الإنترنت” للمشاهدين وقتها، وكيف تعثّرت جهود معظمهم. تلك المشاهد، والتي تغطيها الكوميديا، تحتفظ اليوم بقيمة تاريخية مهمة عن علاقاتنا الأولية بالإكتشافات الحديثة، وعجزنا غالباً عن تخمين وجهات التطورات التكنولوجية المُتصاعدة، فالإنترنت الذي كان لغزاً في بداياته، تحوّل اليوم إلى تفصيلة أساسية في حياتنا، كذلك ستتحول العملة الإفتراضية، حسب الفيلم، إذ شبهها متحدث آخر فيه، بالإختراع الذي يوازي بأهميته “الإنترنت” نفسه.

يقوم بالمُهمة التحقيقية في الفيلم، دانيال مورس، وهو أمريكي مُتخصص في شئون التكنولوجيا والإنترنت وأحد المتحمسين للعملة الإفتراضية الجديدة، فيما سيخرج الفيلم شقيقه “نيكولاس”. أن يرتكز الفيلم التسجيلي الأول حول “البيتكون” على حماس شخص ما للموضوع هو أمر جيد بشكل عام، فـ “دانيال” سيعرف كيف يقارب الموضوع من جميع زواياه وسيطرح الأسئلة المناسبة، ولن يحتاج لكثير من الجهود للوصول إلى أبرز الشخصيات التي تُحرّك سوق العملة الإفتراضية في العالم اليوم، رغم ما يكتنف هذا من صعوبات بالعادة، لكنه بالمقابل بدا واثقاً من نجاح “بيتكون”، فلن يذهب كثيراً باتجاه التشكيك في مستقبل العملة الجديدة، وإذا كانت ستصمد بوجه الزمن والقيود الحكومية الغربية، التي وإن تأخرت تشريعياً بضعة أعوام في أمريكا، إلا أنها عندما بدأت بالعمل في العامين الأخيرين، ضربت بقسوة معظم الشركات الأمريكية التي تتعامل بهذه العملة، وألقت بأصحابها في السجون أو ضايقتهم إلى حدّ إغلاق شركاتهم، ومنهم من ظهر لدقائق طويلة في الفيلم التسجيلي هذا، الذي صُوّر على مدار أشهر عديدة.

لا يُخفي الفيلم حماسه للعملة الإفتراضية الجديدة، هو يرى فيها “الأداة” التي ستمنح البشر في كل مكان مزيداً من الحريات، ومُكملة للمُهمة التي بدأها الإنترنت بتحرير الإنسان العادي من هيمنة المؤسسات التقليدية وتعريفه بطرق جديدة لإدارة حياته. الحماس سيغلف الاستعادة التاريخية لنشوء الـ “بيتكون”، والذي بدأ قبل خمس أعوام عن طريق شخص مجهول قدّم نظاماً كاملاً للتعامل المالِيّ على الإنترنت، يكون بعيداً عن هيمنة الحكومات والبنوك الكبيرة، قبل أن يختفي تماماً ويترك العملة التي اخترعها تجد الحياة بسبب حماس خبراء إنترنت وتكنولوجيا.

يمُرّ الفيلم على أبرز المحطات التي قطعتها العملة الجديدة، صعودها وهبوطها، وكيف ارتفع سعر “بيتكون” من السنتات القليلة إلى 400 دولار أمريكي قبل ثلاثة أعوام. لاشك أن تمركز أكثر المتحمسين للعملة في الولايات المتحدة الأمريكية ساعد كثيراً على تقديم لقاءات مُهمة مع أغلبهم، كذلك سافر الفيلم إلى اليابان وبنما، حيث انتقلت إلى هناك بعض الشركات المالِيّة المتعاملة بالعملة الإفتراضية، لكي تتخلّص من تعقيدات الوضع القانوني في الدول الغربية للشركات التي تتعامل بالأموال، وبعيداً عن كوابيس تُهَمّ مثل غسيل الأموال.

كان التفاؤل سيُغرق الرحلة التحقيقية التعريفية بالعملة الافتراضية للفيلم، لو لم يمرّ هذا الأخير بالجوانب المظلمة السوداء التي نمَت مثل النباتات البرية حول “البيتكون”، فالتخفّي وراء النظام المالِيّ المُعقد والذي توفرّه الأخيرة، سيسُهّل عمليات الإتجار بالمخدرات والمواد الممنوعة على شبكة الإنترنت، فيُقدّم الفيلم قصة موقع “طريق الحرير” الالكتروني للبيع والشراء، والذي تحوّل إلى ساحة لبيع جميع أنواع المخدرات، بسبب نظام الدفع فيه بالـ “بيتكون”. هذه التفصيلة، أي استغلال البعض لقضية حماية الخصوصية للمتعاملين بالعملة الافتراضية في أعمال غير مشروعة، هي من أكثر القضايا الجدليّة التي تواجه تشريع أو انتشار هذه العملة. الفيلم عجز عن تقديم أجوبة، ربما لأن العملة تمرّ بعمليات مخاض وتعريفات متواصلة، ولم تصِل إلى شكل نهائي مستقر. كما سيمرّ الفيلم على

موضوع الفساد داخل المؤسسات المتعاملة بـ”بيتكون”، وكيف وصل مبكراً للمشتغلين بالعملة الجديدة، فالشركة الكبرى التي رافقها الفيلم، والتي تعمل بالإتجار بالـ”بيتكون” في اليابان، تبين إنها متورطة في عمليات احتيال وتزوير مالِيّ، وأن النظام المالِيّ الرصين، الذي يدعي من يقف وراء العملة الجديدة بأنهم إبتكروه، يحتوي على فراغات وهَنَات عديدة.

يسعى الفيلم أن يُصّبغ موضوع مهمته التحقيقة بمعاني إنسانية وفلسفية، فيُقدّم العملة الجديدة كأسلوب حياة  وحلّ يقترب من “الطوبائي” لمشاكل العالم. الفيلم يؤكد بدوره أن هذا “الحل” هو في متناول اليد، ويكاد يتحول إلى حقيقية، ففي العام الماضي اعترفت ألمانيا بالعملة الإفتراضية الجديدة لتكون الدولة الأولى بالعالم، وانتشار “بيتكون” مازال متواصلاً، رغم العثرات الجديّة التي تواجهها. ينجح الفيلم أن يكون وثيقة تاريخية واجتماعية مُهمة عن محاولات التكنولوجيا في عصرنا الحالي لعتق الإنسان العادي من قيود الدول والمؤسسات المالِيّة العملاقة. هذا إضافة لأهمية الفيلم الأرشيفية في حفظ تاريخ الـ “بيتكون” وظروف نشأتها، والتي ربما تتحول إلى عملة المستقبل لنا جميعاً.


إعلان