“نادي الشغب” يُعرّي أغنياء بريطانيا
عدنان حسين أحمد – أبو ظبي

ليس من قبيل المُصادفة أن تشترك المملكة المتحدة بثمانية عشر فيلماً روائياً ووثائقياً وقصيراً في المسابقات الرسمية والبرامج الخاصة للدورة الثامنة لمهرجان أبو ظبي السينمائي. فهذا البلد يسعى لترسيخ حضوره القوي في غالبية المهرجانات السينمائية الدولية، والترويج لخطابه البصري من جهة ولرؤيته الثقافية والاجتماعية والسياسية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أنّ فيلمين بريطانيين قد فازا بثلاث جوائز وهما “ذيب” لناجي أبو نوّار، المولود بلندن والمُقيم فيها، و “فيرونغا” لأورلاندو فون آينزيدل، فيما حصل “الهدف المُقبل من أجل الفوز” لمايك بريت وستيف جاميسن على تنويه خاص من لجنة التحكيم، إلاّ أن هناك أفلاماً روائية أخرى شديدة الأهمية لكنها مرّت على لجان التحكيم مرور الكرام نذكر منها “71”، “الآنسة جولي”، “دببة”، “سيدتي العجوز”، “قُمامة” و “نادي رايوت” أو “نادي الشغب” كما يُفصح مضمون الفيلم وتكشف ثيمته الرئيسة.
لسنا هنا في موضع التشكيك بقدرات أعضاء لجان التحكيم أو الطعن بخياراتهم الفنية، فـ “الأذواق مختلفة” كما يقول مثل هولندي دارج، وآليات الاستقبال ليست متشابهة بين المتلقين حتى وإن كانوا من أهل الفن السابع وأتباعه ومريديه. إنّ ما نُريده في هذا المقام هو التنويه والإشارة إلى أفلام بريطانية نجحت على أصعدة مختلفة وخطفت إعجاب النقّاد والمشاهدين على حدٍ سواء ومن بين هذه الأفلام “نادي رايوت” للمخرجة الدنماركية لون شيرفيغ، موضوع بحثنا ودراستنا، وفيلم “71” للمخرج البريطاني يان دومانج المولود في فرنسا الذي يتناول محنة جندي بريطاني في بيئة معادية إضافة إلى أفلام بريطانية أخرى احتفى بها برنامج “عروض السينما العالمية”.
نادي الشغب

يحمل هذا النادي العتيد أكثر من اسم، وأول هذه الأسماء هو “نادي بولينغدون” الذي يقتصر على الذكور حصراً في إشارة أولى إلى التمييز “الجندري” – التمييز على أساس النوع – . كما يضمّ طلاباً أثرياء جداً من جامعة أكسفورد يقيمون مأدبات عشاء فاخرة قد لا تخطر ببال الكثيرين من عامة الناس وتقترن في الأعم الأغلب بشعائر وطقوس صاخبة مثل تحطيم أثاث المطاعم، وتدمير غرف الكليات التابعة للجامعة ذاتها. وأكثر من ذلك فقد يتمّ الاعتداء على الطهاة والنُدل بطريقة وحشية غير مسبوقة. حينما أُسس هذا النادي عام 1780 كان مُكرّساً لرياضة الكريكيت وسباق الخيل فقط لكن حفلات العشاء الباذخة أصبحت تدريجياً النشاط الرئيس لهذا النادي الذي طبقت شهرته آفاق المملكة المتحدة وعبرتها إلى خارج الحدود المحلية. ولعل ما يميّز هذا النادي عن سواه من النوادي الثقافية والاجتماعية هو كلفة عضويته الباهضة، وأناقة منتسبيه، ودفعهم في الحال للأضرار التي يتسبّبون بها. فهم من علية القوم، وأثرياء المملكة الذين تنتظرهم المناصب السياسية الكبيرة والوظائف التي لا يحلم بها الناس البسطاء ويكفي أن نشير هنا إلى أبرز أعضاء هذا النادي حالياً هم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ووزير الخزانة جورج أوزبورن، وعمدة لندن بوريس جونسون. وعلى الرغم من أنّ جامعة أكسفورد لا تعترف بهذا النادي البرجوازي وأن المطاعم المحلية في المدينة لا تستجيب لطلبات الحجز المتواصلة لأعضاء هذا النادي المتغطرسين إلاّ أن هذا النادي تحديداً قد أصبح موضوعاً روائياً ودرامياً سواء أكان منضوياً تحت هذا الاسم الصريح أم توارى تحت أسماء أخرى وهمية سرعان ما يلتقطها المتلقي الحصيف.

ترتكز غالبية الأفلام السينمائية على الجهود الجماعية. وفيلم”نادي الشغب” لا يخرج عن هذا الإطار إذ لعبت فيه الكاتبة المسرحية البريطانية لورا وَيد دوراً مهماً في كتابة السيناريو الذي استوحته من مسرحية (Posh) التي جسّدتها المخرجة البريطانية ليندسي تيرنر على خشبة المسرح عام 2010. وعلى الرغم من اللمسات المهمة التي أضفتها وَيد على النص المسرحي إلا أن الهيكل المعماري للقصة السينمائية لم يتغيّر كثيراً مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الأداء السينمائي المسترخي يختلف بعض الشيئ عن الأداء المسرحي الذي لا يفلت من الانفعالات والتوترات الداخلية في كثير من الأحيان.
يمكن اختصار الثيمة الرئيسة للفيلم بدعوة العشاء الباذخة التي أقامها رئيس النادي جيمس ليتون (فرَدي فوكس) بمناسبة إنهاء سنته الجامعية الأخيرة. وقد بذل قُصارى جهده لإقناع صاحب الحانة كريس، وابنته النادلة ريتشل بأنه سوف يضبط إيقاع المدعوين الذين لا ترحِّب بهم مطاعم المدينة برمتها لأنهم يحطِّمون أثاثها في خاتمة المطاف ولا يجدون ضيراً في الاعتداء على صاحب المطعم أو نُدُلِه أو زبائنه في بعض الأحيان. وهذا ما حصل بالضبط مع كريس وابنته حيث تعرّض كريس للضرب الوحشي من قبل بعض أعضاء النادي العشرة الذين حضروا هذه المناسبة، فيما تعرضت ابنته ريتشل إلى الإهانة عدة مرات حيث طلب منها أحدهم أن تُقبِّل المدعوين العشرة تباعاً قبل أن تغادر الصالة المخصصة لهم لتطلب سيارة الإسعاف لنقل والدها إلى المستشفى بعد إصابته بنزف دماغي خطير، وتلف في إحدى رئتيه، وكسور في بعض أجزاء جسده، إضافة إلى الجروح الغائرة التي شوّهت معالم وجهه. وبما أنّ ألستير (سام كلافلِن) ينتمي إلى الجناح اليميني سياسياً وهو شقيق سباستيان الذي يُعّد عضواً “أسطورياً” في نادي الشغب أو نادي النخبة فإنّ بعض الأمور المعقدة طوع بنان هذا العضو الأسطوري فلاغرابة أن يتدخل ليخفف من وطأة التُهمة الموجهة ضد أخيه، بل يعدهُ أكثر من ذلك بمناصب سياسية مرموقة في أروقة الدولة.
قصص مؤازرة
ثمة قصص ثانوية مؤازرة تعزز الثيمة الرئيسة للفيلم مثل استدعاء بائعة الهوى تشارلي (ناتالي دورمر) التي رفضت تنفيذ رغباتهم الإيروسية العابرة على الرغم من الإغراءات المادية الفاحشة لهاري (دوغلاس بووث). أو استدعاء لورين (هوليداي كرينجر) حبيبة مايلز (ماكس آيرنز) من دون علمه مستعملين هاتفه النقّال ليضعوه في موقف لا يُحسد عليه الأمر الذي يدفعها لتركه والتخلي عنه كما هدّدته بإخبار الشرطة إن هو عاود الكرّة واتصل بها ثانية لترميم ما خرّبه الأصدقاء.

لم يخسر كريس صحته وزبائنه وأثاث حانته حسب وإنما خسر سمعته كصاحب حانة يقصدها القاصي والداني على حدٍ سواء حيث حطموا كل الكؤوس، والصور، والأطباق، وزجاجات النبيذ الثمينة، ومزقوا حتى ورق الجدران ثم حشروا لُفافات الأوراق النقدية في فمه قبل أن يغادروا الصالة التي تلطّخت بدم صاحبها الذي بذل كل ما بوسعه من أجل إسعادهم وإدخال البهجة إلى نفوسهم.
تنتقد المخرجة لون شيرفيغ الطبقة المخملية في المجتمع البريطاني وتُدين تصرفاتها الأخلاقية التي تمسّ بالكرامة الإنسانية تماماً كما حصل مع الشخصيات الأربع المارّة الذكر كريس وابنته وتشارلي ولورين. كما أنها وضعت البعض منهم مثل أليستير رايل في موقف محرج لا يُغبَط عليه حيث فقد ثنية روحه لذنبٍ لم يقترفه بنفسه وإنما جاء نتيجة لعبث أصدقائه وسخف حماقاتهم التي لا تتوقف عند حدّ.
يُجرِّد هذا الفيلم النوعي مجتمع النخبة البريطاني حتى من ورقة التوت التي تستر عوراته الكثيرة لأنه لم يفِد شيئاً من مخملية المولد، ولم يتكئ على أناقة اللفظ، وحُسن التربية، ولم يعوِّل على كياسة الذوق أو حتى على عقدة التفوق الافتراضية التي أثبت الزمن بطلانها.
وإذا وضعنا القصة السينمائية جانباً وطريقة تجسيدها على الشاشة الكبيرة بما تنطوي عليه من مضامين حسّاسة ولاذعة فإن هذا الفيلم تحديداً كان ناجحاً على أكثر من صعيد. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن طاقم التمثيل برمته قد برع في أداء الأدوار المُسندَة لكل شخصية على انفراد ولم يحدث أي نشاز على مدى ساعة وسبع دقائق بالتمام والكمال. كما أن التصوير كان في منتهى الدقة والرهافة والانسياب حتى ليشعر المُشاهد بأنه أمام لوحات بصرية آسرة ما كان لها أن تكون كذلك لولا الرؤية المونتاجية لجايك روبرتس تعززها موسيقى كاسبر وايندينغ التي حفّزت المتلقي على التماهي والاندماج في موضوع الفيلم وخطابه البصري الذي يراهن على الصورة أكثر من مراهنته على الأفكار المبثوثة في سياق هذا الفيلم الجريء الذي لا يُغادر بصر المتلقي وبصيرته إلاّ بعد سنوات طويلة.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن شيرفيغ هي من مواليد كوبنهاغن. تخرجت من مدرسة السينما الوطنية في الدنمارك. أنجزت عدداً من الأفلام المهمة نذكر منها “رحلة عيد الميلاد”، “لوحدنا”، “الإيطالية للمبتدئين” و “التربية” الذي فاز بجائزة أفضل فيلم، إضافة إلى جائزتي أفضل سيناريو وأحسن ممثلة.