“أطفال قابيل”: الجريمة وما بعد العقاب

أمير العمري

من مهرجان سان سباستيان حيث حصل على جائزة كأحسن فيلم أول لمخرج جديد، إلى مهرجان ميونيخ، إلى مهرجان أبو ظبي السينمائي، جاء الفيلم الوثائقي الطويل “أطفال قابيل” Cain’s Children للمخرج المجري مارسيل جيرو Marcell Gero، الذي يُعدّ تجربة جديدة قد لا تكون مسبوقة، حول فكرة الجريمة ومفهوم المجتمع عن الشر، وهل الإنسان يملك قراره بشكل كامل، أم أنه يمكن- في لحظة ما- أن يفقد قدرته على التفكير والتعقل، خاصة عندما يكون لايزال صغيرا في مقتبل العمر، لا يمكنه عقلنة المواقف التي تنقض عليه فجأة، وبالتالي قد يتورط في ارتكاب جريمة قتل لم يكن يريد أن يرتكبها، ثم سرعان ما يدرك بعد إقدامه على فعل القتل، فداحة فعلته، ويريد- دون جدوى- أن يعيد الحياة إلى ضحيته. هنا فقط يدرك القاتل الصغير أن مصيره قد تحدد، فقد أصبح مجرما قاتلا ملعونا محكوما عليه بالعزلة داخل السجن.

الفيلم القديم
كان المخرج مارسيل جيرو يقوم بعمل أبحاث ميدانية عن المجرمين والجرائم داخل أحد السجون المجريّة، يستمع إلى روايات السجناء، وكان يبحث في الصحف القديمة والأفلام التسجيلية وبرامج التليفزيون التي تتعلق بالجريمة وسيكولوجيا الإجرام، فقد كان يستعد لإخراج فيلم روائي طويل عن عالم الجريمة، إلا أنه شاهد ذات يوم فيلما وثائقيا قديما من عام 1985، من إخراج أندرياس مونروي، يصور ثلاثة من الشباب في سن المراهقة، ارتكبوا جرائم قتل، منذ لحظة القبض عليهم ووضعهم في سيارة الترحيلات ثم داخل السجن، بل وتمكّن مخرج الفيلم أيضا من إجراء مقابلات مطولة تفصيلية معهم عن ظروف ارتكابهم الجرائم وشعورهم بعد ارتكاب تلك الجرائم.

 

كانت تلك هي نقطة الانطلاق لإخراج “أطفال قابيل”، الذي يستند إلى لقطات من الفيلم القديم الذي أُنتج في زمن الحكم الشيوعي، وصورت أجزاء منه داخل سجن للنزلاء الخطرين معروف بقسوة المعاملة فيه. ولاشك أن السلطات سمحت للمخرج بتصور المقابلات مع هؤلاء الشبان الصغار الثلاثة لرغبتها أن يصبح الفيلم أداة ردع نفسي لمن يشاهده من الشباب، إلا أنها عادت فحظرت عرض الفيلم بعد أن اكتشفت أن مخرجه يقدم صورة- ليست بالضرورة متعاطفة مع الشبان الثلاثة- ولكن صورة “إنسانية” لهم، تحاول أن تفهم طبيعة مشاعرهم وظروف نشأتهم وما يشعرون به الآن بعد أن انتهت فورة الغضب التي دفعتهم لارتكاب جرائمهم.

محاولة للفهم
من هنا يلتقط جيرو الخيط ويعود اليوم بعد ثلاثين عاما على ارتكاب تلك الجرائم، لكي يبحث عن هؤلاء السجناء الذين ودّعوا الشباب الآن وأصبحوا رجالا تجاوزوا منتصف العمر، ويستغرق البحث منه سنتين قبل أن يتمكن من العثور عليهم في مدن مختلفة ومتباعدة في أطراف المجر، لكي يحاول أن يفهم ما حدث في الماضي، وكيف انعكس على حياة هؤلاء الرجال الذين أصبحوا اليوم يواجهون ظروفا اجتماعية شاقة، يحاولون بصعوبة التأقلم مع مجتمع شديد الاختلاف عن ذلك الذي كانوا يعرفونه عندما ارتكبوا جرائمهم التي يعتبرونها “أخطاء” دافعها التهور أو ما يتصوره أحدهم من الدفاع عن النفس أو القتل غير المقصود.
ينتقل الفيلم بين لقطات لأبطاله الثلاثة الذين قُضيّ عليهم بالاكتفاء بالعيش حاليا على الهامش الاجتماعي، يواجهون النبذ والاحتقار والرفض من جانب المجتمع، عاجزين حتى عن توفير قوت يومهم، ويبدون جميعا نادمين عما جنت أيديهم وتسبب في ضياع قسط كبير من عمرهم وراء القضبان.
كان جوزيف في الثالثة عشرة من عمره عندما ارتكب جريمته. وقد قضى ثماني سنوات في السجن. والمخرج يذهب إلى منزل والدته لكي يسألها عن ابنها وعلاقتها به وشعورها نحوه اليوم، وكيف كان في الماضي، وتروي كيف أنه كان يتعرض لأبشع أنواع الإهانات والتحقير، وقد قتل معلمه في المدرسة فيما يقول أنه كان دفاعا عن النفس، ويصف بالتفصيل كيف كان المعلم يحاول أن يخنقه بل وكاد بالفعل أن يقتله لولا أنه تمكن من التملص منه وقام بطعنه وظل يطعنه مرات عدة، إلى أن قتله دون أن يدري أنه مات بل وحاول أن يوقظه ويجعله يستفيق دون جدوى بالطبع!

وكان “بالي” في الخامسة عشرة عندما أطلق الرصاص على والده الذي كان يعنفه كثيرا ويتهمه بأنه لا نفع فيه ولا صلاح. ونعرف أنه فشل في زواجه بعد أن أنجب ابنته التي أصبحت مثله، تعاني مما كان يعانيه فأخواتها من الزوج الثاني لأمها، يحبطونها بالقول إنها لا تصلح، وإنها فاشلة تماما كما كان والده يُردّد. الأمر الذي تسبّب في شعوره الدائم بالنقص والفشل، وقد يكون دفعه لارتكاب الجريمة. وتتحدث والدة زولت عن المعاملة السيئة التي نالها وهو صغير. وهو الآن نزيلا في مصحة عقلية بعد المحنة التي مرّ بها في بدايات شبابه.
وهم يتحدثون أمام الكاميرا عن الماضي، يصفون ما كانت عليه الحياة في المجرّ حينما كان المخرج نفسه لايزال طفلا صغيرا (من مواليد 1978) لا يدرك ما يجري حوله، يحصرهم جيرو في لقطات قريبة (كلوز أب) معظم الوقت، يفتح في لقطات عامة على السجون التي قضوا فيها ثلث حياتهم،، يبحث فيما وصلوا إليه اليوم، يتحدث إلى أقاربهم ومن يعرفونهم. لكن لعل ما ينقص لتحقيق نوع من التوازن في الفيلم غياب أي شخصية من الشخصيات الرسمية: المحقق، الضباط، نزلاء السجن من زملائهم، السجانون، لكي تكتمل الصورة.

تساؤلات
فيما وراء الجانب الاجتماعي من فيلم “أطفال قابيل”، توجد بعض التساؤلات عن الشر وعن المجتمع: كيف يبرز فجأة وكيف يمكن أن يتحول إلى جريمة بشعة، وكيف يمكن للمرء أن يلجأ للعنف وهو أصلا مجرد طفل لا يدرك تماما مغبة ما يفعله، وهل يكون المجتمع مسؤولا على نحو ما، عن تلك الانحرافات السلوكية، وهل العقاب كفيل بتغيير النفس البشرية إذا كان العنف شيئا متأصلا في داخلها أم أن زوال الظروف الاجتماعية هو الضمان لتغيُّر الإنسان من حال إلى حال؟

ميزة هذا الفيلم أنه لا يقدم حكما بالإدانة أو التبرئة، فما وقع قد وقع، لكنه يحاول أن يفهم حقيقة ما حدث ولماذا، ومسؤولية المجتمع عما حدث، وكيف يمكن أن يواجه شخص تجاوز منتصف العمر اليوم، الحاضر بعد أن ظلّ أسيرا لسنوات طويلة في الماضي خلال وجوده في السجن حيث خبر حياة تختلف كلية عن الحياة خارجه، وكيف أنه أصبح في سجن من نوع آخر مختلف بعد إطلاق سراحه، حيث يحاسبه الجميع على ماضيه، ويحرمونه من فرصة التطلع إلى مستقبل يعيد فيه بناء نفسه، ويجد نفسه عاجزا عن العثور على عمل شريف.

هذه التساؤلات لا تأتي على نحو مباشر في الفيلم ، بل تبرز من تحت جلد الصور والشخصيات وأثناء تأملنا في مغزى القصص الثلاثة المتقاطعة التي نتابعها، والتي ينجح المخرج مارسيل جيرو في نسجها معا والانتقال فيما بينها ببراعة وسلاسة، مع التوقف في التوقيت المناسب عندما يقتضي الأمر، وإتاحة مساحة للتأمل والتفكير، أو ينتقل لشخصية أخرى أو لمكان آخر، بحيث يصبح المكان جزءا رئيسيا من الفيلم، فلسنا أمام فيلم مجرد يتكون من أفعال معزولة، بل يحرص المخرج على تذكيرنا طول الوقت، بالمكان، فيكتب على الشاشة اسم المكان: المدينة أو البلدة وموقعها الجغرافي في المجر، وتاريخ التصوير، كنوع من التوثيق الدقيق للحدث وللمادة.
فيلم “أطفال قابيل” أخيرا فيلم وثائقي شديد المعاصرة، لا ينسحب فقط على البلد الذي جاء منه، بل يمكننا كمشاهدين أن نجد له حضورا في الكثير من بلادنا. ولعل هذه إحدى مزاياه الكثيرة.


إعلان