“بانوراما الفيلم الأوروبي” في القاهرة

أمير العمري

 مرة أخرى وبمجهود خاص خارج المؤسسات الرسمية الثقافية في مصر، تقيم شركة مصر العالمية التي تديرها المنتجة السينمائية ماريان خوري بعد وفاة خالها المخرج الكبير يوسف شاهين، “بانوراما الفيلم الأوروبي” السابعة في القاهرة، وهو الحدث الذي أصبح سنويا منذ سبع سنوات.
نجحت ماريان خوري مرة أخرى في أن تأتي بمجموعة من الأفلام الأوروبية الجديدة والكلاسيكية أيضا للعرض على عشاق السينما الفنية في القاهرة في اثنتين من دور العرض. ولاشك أن اختيار عدد من الأفلام التي أصبحت ضمن ما يسمى بـ “الكلاسيكيات الحديثة” كان اختيارا موفقا فالسينما الحديثة التي تنتج اليوم لا تنفصل عن تاريخ سينما الفن الرفيع عموما، بل هي امتداد له. 
تعرض البانوراما التي افتُتحت في التاسع عشر من نوفمبر وتُختتم في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، أكثر من 40 فيلما طويلا وعددا آخر من الأفلام القصيرة. افتُتحت البانوراما بالفيلم الايطالي “رأس مال إنساني” Human Capital للمخرج باولو فيرتزي Paolo Virzì. ويتكون البرنامج من عدة أقسام هي: الفيلم الوثائقي، السينما الأوروبية، أفلام العمل الأول، أضواء على السينما السويسرية، أفلام قصيرة من هولندا، كلاسيكيات البانوراما، علامات سينمائية.. وأخيرا إعادة استكشاف فيلم فيندرز، المخرج الألماني المرموق.
من العلامات السينمائية عرض المهرجان فيلم “جيرترود” من عام 1964 وهو أحد أهم كلاسيكيات السينما الدنماركية للمخرج كارل دراير (مخرج “الجوع”، و”عاطفة جان دارك” و”أورديت”).. وبطلته شخصية شديدة الحساسية، تبحث عن الفن في الحب، وعن الحب في الموسيقى، ولكنها تنتهي الى فرض العزلة على نفسها، بعد أن عجزت عن العثور على ما تنشده. ويعتبر مخرج الفيلم كارل دراير (1889- 1968) أحد عمالقة السينما في العالم، وقد ترك بصمته على السينما في أوروبا، وساهم في تطوير الفيلم الفني ونقل الفيلم السينمائي إلى مستوى أعظم أعمال الأدب والفكر.

لقطة من الفلم البريطاني 71

من أفلام العمل الأول عرض المهرجان الفيلم البريطاني “71” للمخرج يان ديمانج، وهو يستند إلى حادثة حقيقية وقعت في بلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية عام 1971 عندما اندلعت أعمال شغب مناهضة للوجود البريطاني هناك، يفقد خلالها جندي من الجنود الانجليز المكلفين بفض الشغب، الطريق، ويضيع في زحام الأجواء المضطربة في مجتمع غريب عليه، ويتعرض للضرب المبرح من قبل بعض الصبية ثم ينقذه رجل وابنته ويقومان بعلاجه وايوائه قبل أن يصبح هدفا لنشطاء الجيش الجمهوري الأيرلندي ويمر بمحنة طويلة مرهقة. وتكمن أهمية الفيلم في براعة الأسلوب الذي يطغى عليه الطابع الوثائقي: التصوير في المواقع الطبيعية، الاستخدام المقتصد للحوار، الكاميرا المهتزة، اللقطات المتحركة الطويلة، الإضاءة الليلية الخافتة.

كلاسيكيات

لقطة من فيلم 400 ضربة

من “الكلاسيكيات الحديثة” التي أتى بها منظمو البانوراما لجمهور القاهرة الشاب الفيلم الشهير “400 ضربة” أول أفلام المخرج الفرنسي الراحل فرنسوا تريفو عام 1959 وهو أحد أشهر أفلام حركة الموجة الجديدة الفرنسية.

 وكان الفيلم الأول في الثلاثية التي أخرجها تريفو التي يتابع فيها شخصية أنطوان دوانيل، منذ أن كان صبيا مراهقا منبوذا من أسرته ومن المجتمع وكيف يقرر التخلص من قيوده فيهرب من البيت والمدرسة ويسرق ويسجن ويتعرض لتجارب أليمة. وقام بدور أنطوان، الممثل جان بيير ليو الذي اكتشفه تريفو وكان في الخامسة عشرة من عمره، وقد قام فيما بعد باستكمال الدور بعد أن كبر، في فيلمي “أنطوان وكوليت” (1962) و”قبلات مسروقة” (1967).
واحتفالا بالمخرج الألماني فيم فيندرز عرض المهرجان ثلاثة من أفلامه الشهيرة هي “باريس- تكساس”- 1984 و”نادي بيونا فيستا الاجتماعي”- 1999 (وثائقي) وفيلمه الأحدث “ملح الأرض” وهو الوثائقي الذي تناولناه بالنقد والتحليل في موقع “الجزيرة الوثائقية” قبل فترة.

 ومن أهم الأفلام الوثائقية التي عرضت بالبانوراما، الفيلم التسجيلي الطويل الثالث للمخرجة البريطانية  كلو روثفين، وهو فيلم “فاعلو الخير” The Do-Gooders الذي قامت بتصويره في فلسطين واسرائيل ويتناول موضوع المعونات التي تقدمها وكالات الإغاثة الدولية للفلسطينيين. وهي تبدأ رحلتها الاستكشافية هذه في محاولة لاقتفاء آثار جدها وجدتها اللذين كانا يعملان في وكالة غوث اللاجئين في نهاية الأربعينيات، لكنها تؤكد أن هدفها لم يكن عمل فيلم عن جديها بل “عنا نحن”، أي عنها وعن أبناء جيلها من البريطانيين الذين لا يعرفون الكثير عن فلسطين. وهي تعبر عن هذا المفهوم من خلال تعليقها الصوتي المصاحب للفيلم، وهو تعليق غير تقليدي بل ولا يبدو أنه قد أُعدّ مسبقا، بل يأتي تلقائيا ومكمِّلا لتلك اللحظات التي تُسجّلها بأمانة، سواء بشكل مباشر أو تعليقا على الصور فيما بعد أي في مرحلة المونتاج. وهذا التعليق الممتد سيبقى معنا طوال تلك الرحلة المضطربة التي تبدأ بأفكار مسبقة أو بعض “الإفتراضات” ثم مع الاقتراب أكثر فأكثر من بعض الحقائق خاصة بعد دخول الناشطة الفلسطينية “لبنى” إلى الفيلم وتلك الحوارات الممتعة التي تدور بينها وبين المخرجة. ويرصد الفيلم التناقض بين ما تقدمه أمريكا لإسرائيل من أسلحة وعتاد حربي وما تمولّه من مشاريع للبنية التحتية لا تبدو مفيدة لأحد سوى الشركات التي تقوم بتنفيذها كما أن الطائرات الإسرائيلية تقوم بتدميرها!

لقطة من الفيلم البولندي إيدا

عرض بالبانوراما أيضا الفيلم البولندي المرشح حاليا لجائزة أحسن فيلم أوروبي والذي سيمثل بولندا في مسابقة الاوسكار وهو فيلم “إيدا” Ida الذي تدور أحداثه في أوائل  الستينيات أي بعد خمسة عشر عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية، ويصور كيف تكتشف فتاة شابة قضت 17 عاما-  كراهبة – في دير كاثوليكي، لكنها تكتشف أخيرا أنها تنتمي في الأصل لأسرة يهودية قُتل أفرادها بعد الغزو النازي لبولندا، بينما نجت هي وأودعت الدير. وهي تخرج لكي تحاول البحث عما حدث بالضبط بمساعدة خالتها التي عاشت فترة قاسية من حياتها بعد الحرب. والفيلم المصور بالأبيض والأسود يتميز بتفاصيله البصرية والفنية البديعة التي تُجسّد واقعية تشوبها نغمة من الأسى.

ومن الإنتاج المشترك بين السويد والنرويج والدنمارك يأتي فيلم “حسب ترتيب الاختفاء” In Order of Disappearance

لقطة من فيلم حسب ترتيب الاختفاء

بموضوعه الغريب المثير، وأسلوب إخراجه الواثق المتمكن، وسخريته اللاذعة، وابتكارات مخرجه في تنفيذ مشاهده وتصويرها. والفيلم من إخراج المخرج النرويجي هانز بيتر مولاند الذي يقيم في الولايات المتحدة، ويقوم ببطولته الممثل السويدي ستيلان ساكارسجارد.هذا فيلم يمتلك جاذبيته الخاصة من أسلوبه رغم أن موضوعه ليس جديدا، ومن قدرته على الإمتاع الذهني أيضا ومن ابتكاراته الفنية وحس السخرية العميقة فيه. ولو أردت أن تعثر على موضوع “جاد” في ثنايا الفيلم فربما تكون تلك النظرة العنصرية إلى الغرباء، الأجانب، المهاجرين الذين يقيمون في دول الشمال الغنية وخصوصا النرويج في حالة فيلمنا هذا. لكن معالجة موضوع العنصرية تأتي في سياق الكوميديا التي تصل حد السريالية، فليس من الممكن التعامل مع الفيلم طبقا لمطابقته للواقع أو قدرته على التماثل مع الواقع، بل إنه في أشد لحظاته محاكاة للواقع، وهو سرعان ما يجعلك تبتعد خارج الواقع وتضحك حتى في المشاهد التي تسيل فيها الدماء وتتدفق  أنهارا، فأنت تعرف أنها دماء التمثيل، أي دماء الفيلم وليس الواقع، والمخرج يشركك في “اللعبة” من البداية، ويشدّك معه إلى النهاية.
تدور الأحداث في بلدة نرويجية تغطيها الثلوج وبطلنا وهو في العقد السادس من عمره، يعمل سائق على عربة خاصة عملاقة لإزاحة الثلوج والتخلُّص من تراكماتها على الطرق وهو يقرر بعد أن يتعرض للتقريع الشديد من جانب زوجته، البحث عن قتلة إبنه وتصفيتهم بنفسه بطريقة عنيفة وبلا رحمة، وتنفيذ عقوبة الإعدام بالمجرمين دون محاكمة واحدا واحدا وبطرق مبتكرة.
وتأتي طرافة الفيلم من كونه مليئا بالمشاهد من نوع محاكاة ساخرة parody  لما يماثلها من مشاهد أو عبارات وشخصيات في أفلام قديمة مشهورة، وخصوصا “هاري القذر”، و”ليست بلدا للعجائز” وغيرهما. وهو ينتمي إلى الكوميديا السوداء، تميزه تلك النظرة العبثية للعالم وتجعله عملا فريدا.

بيات شتوي

لقطة من فيلم بيات شتوي

ومن أهم أفلام البانوراما الفيلم التركي “البيات الشتوي” لنوري بيلج جيلان الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير. وهو عبارة عن دراما عائلية-  تشيكوفية ذات نفس وجودي معاصر، تدور في قرية جبلية معزولة تماما من منطقة أناضوليا الشهيرة، مميزة بتضاريسها البديعة.. بيوتها مدفونة في الصخر، صارمة في مظهرها لكنها دافئة ومسترخية في جوفها، في الداخل. 

بطلنا هو “أيودين”، رجل في بداية الخمسينات من عمره، ثري يمتلك مجموعة من المنازل في تلك المنطقة، وفندقا سياحيا يطلق عليه “فندق عطيل”، لكنه أيضا ممثل كفّ عن التمثيل وكاتب يكتب عمودا صحفيا أسبوعيا لجريدة محلية. وأيودين يعيش في الفندق نفسه مع زوجته “نهال” التي ترفض أفكاره وتعارضها تماما، وشقيقته “نسلا” التي تسعى للتخلص من هيمنته البطريركية عليها بالبحث عن نشاط اجتماعي تشارك فيه في تلك البيئة المنعزلة، وتدريجيا وعبر مسار الفيلم الذي يبلغ أكثر من 3 ساعات، تنفجر الخلافات والتناقضات، بين بطلنا وبين الآخرين، في الداخل وفي الخارج، وتكشف عن مدى هشاشة ذلك المثقف الذي يزعم لنفسه قوة لا وجود لها في الحقيقة.

إنه فيلم عن التناقض بين الطبقات، والصراع الاجتماعي، ومسؤولية الفرد الأخلاقية عن أفعاله، وهل من الممكن ردع المخطيء بإتاحة فرصة له للتراجع عما يفعله والإحساس بالإثم والخجل من نفسه، أو فقط بإنزال العقاب به كما ينبغي وكما يُقرّ القانون؟ وما هي حدود الحب ومتى يتحول إلى رغبة في التملك ترتبط أيضا بالإحساس بنوع ما من “التفوق”، وكيف يمكن أن نعدل نظرتنا للحياة لنجعلها أقل غلوا في الطموح، وأكثر قربا من الواقع؟ وجمال الفيلم يكمن في كونه يطرح كل هذه التساؤلات ويتوقف أمامها ببراعة دون أن يفرض إجابة محددة علينا.


إعلان