صمت الراعي

عدنان حسين أحمد – أبو ظبي

كثيرة هي الأفلام المهمة في مسابقة (آفاق جديدة) التي تضم 19 فيلماً روائياً طويلاً ومن بينها (صمت الراعي) للمخرج العراقي رعد مشتّت الذي ترسّخت تجربته الإخراجية في مضمار الفيلم الروائي القصير حيث أنجز ثلاثة أفلام روائية قصيرة وهي (شهرزاد)، (مشهد للحُب وآخر للموت) و (تنويمة الجندي). أما رهانه القوي فقد كان مبنياً على سلسلة من الأفلام الوثائقية نذكر منها (خمسة وجوه)، (موت معلن) و (انتحار دولة الرئيس) وما إلى ذلك من موضوعات مثيرة ولافتة للانتباه.
لا شك في أن المخرج رعد مشتّت يمتلك ذائقة فنية تمكّنهُ من انتقاء ثيمات حسّاسة تحرّك مشاعر المتلقين وربما تدفعهم في كثير من الأحيان لأن يكونوا جزءاً حيوياً من الفيلم وربما يصل التفاعل إلى درجة التماهي في بعض الحالات.
إنّ منْ يُدقّق في عنوان هذا الفيلم الذي اختارهُ المخرج وكاتب النص رعد مشتّت لابد وأن يقرأهُ قراءة رمزية بعيدة عن المعنى الحقيقي، وقريبة من المعنى المجازي، فالصمت، في حقيقة الأمر، لا يقتصر على الراعي فقط ولكنه يمتد إلى المجتمع العراقي برمته حيث صَمَت الجميع في زمن القمع والدكتاتورية والاستبداد ولم ينبس أحد ببنت شفّة، شأنهم شأن الشعوب المقهورة التي تُصادَر حرياتها في رابعة النهار، وهذا التأويل يمكّننا من القول بأن (صمت الراعي) ليس فيلماً محلياً وإنما هو فيلم كوني النزعة حتى وإن كانت نبرته محلية أو عراقية بامتياز.
الإبادة الجماعية
تعتمد غالبية الأفلام الروائية في العالم على قصة سينمائية وسيناريو رصين يستمد مادته الأساسية من تطوِّر الأحداث، وتصاعدها الدرامي، ونموّ الشخصيات الرئيسة والمؤازرة. وهذا الفيلم أقلّ ما يُقال عنه أنه فيلم أحداث وشخصيات متشابكة إن صحّ التعبير.

تدور أحداث (صمت الراعي) في قرية العيون التابعة لمحافظة المثنّى حيث يعيدنا مخرج الفيلم إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي فبعد أن طوى الجيش العراقي صفحة الحرب مع إيران اتجه بقوته العسكرية الضاربة صوب الأكراد في حملة عسكرية عارمة أُطلق عليها اسم (الأنفال) حيث غيّب النظام السابق نحو  (182) ألف مواطن كردي وتمّ دفنهم في قبور جماعية على مشارف الصحراء الممتدة جنوب غرب العراق. وقرية العيون هي واحدة من المواقع التي ضمّت جثث الضحايا الكرد الذين كانوا ينائون الدكتاتورية ويسعون لتحقيق حكمهم الذاتي آنذاك.
تتشظّى أحداث الفيلم من هذه الإبادة الجماعية المُشار إليها سلفاً حيث تخرج (زهرة حميد الصكر) كي تجلب الماء من النهر لكنها قبل أن تعود ترى جريمة الإبادة بأم عينيها فيأمر الضابط بقتلها ودفنها مع الضحايا الكُرد. وعلى الرغم من أن الراعي صابر (سمر قحطان) قد حاول تنبيهها والإشارة إليها بالتواري أو الابتعاد إلاّ أنها ظلت واقفة على تلّة ترابية عالية وهي تنظر بعينيها الفزعتين إلى هول الكارثة التي يتعرض لها هؤلاء المواطنون الكرد الأبرياء. أما الراعي فقد صُعق هو الآخر وأصيب بصدمة شديدة سوف تمتد إلى نحو خمس عشرة سنة، وهي مدة طويلة كان على كاتب النص ومخرجه أن يقصّرها إلى خمس سنوات في أبعد تقدير زمني. فمن غير المعقول أن يظلّ الإنسان مصدوماً لمدة 15 عاماً، خصوصاً إذا كان هذا الإنسان قروياً من جهة وراعياً من جهة أخرى.

براعة الأداء

تتمحور الأحداث في بيت السيد حميد الصكر الذي جسّد دوره الفنان (محمود أبو العبّاس)، صاحب الخبرة المسرحية والتلفازية والسينمائية الطويلة. فلقد سبق له أن ساهم في عشرات الأعمال المسرحية والمسلسلات التلفزيونية كما اشترك في تسعة أفلام عراقية قيّمة، وها هو يطل علينا من جديد في مشاركته السينمائية العاشرة بعد عقد من السنوات أو يزيد. لقد أتقن أبو العباس دوره كالعادة وتألق فيه مُجسداً شخصية كبير القرية الذي يعتقد أن ابنته (زهرة) قد غُرر بها، وخُطفت بفعل فاعل حيث تتجّه الأنظار خطأً إلى (سعود) الذي يُعتقد بأنه هو الخاطف لكن حقيقة الأمر تظلّ مطمورة على مدى خمس عشرة سنة فنتبين بأن سعود كان أسيراً في إيران ثم عاد إلى العراق ليصبح أسير الدوائر الأمنية التي أفرجت عنه بعد أن سامتهُ سوء العذاب.
إذا كنا نُرجِع تألق محمود أبو العباس في دوره بسبب نَفَسه الاحترافي وخبرته الطويلة فإن إنعام عبد المجيد قد جاءت من فضاء الهواية والرغبة في أن تكون ممثلة ناجحة وذائعة الصيت بعد تأدية دور مُبتسر لها في فيلم (المغنّي) للمخرج قاسم حول، لكنها أظهرت براعة فنية في تأدية دور الأم (حنوة) التي تفقد فلذة كبدها في (صمت الراعي)، فقد استطاعت أن تجسّد هذا الحزن في أعلى درجاته وأن تنقل هذه اللوعة إلى المشاهدين المتفاعلين مع الحدث والمنفعلين به خصوصاً وأن النوايا السيئة قد بدأت تتمحور حول فكرة (النهيبة) التي استدعت من حميد الصكر أن يخلع عقاله وألا يدخل مجالس الرجال ما لم يقتصّ من الفاعل الذي دنّس عِرض هذه العائلة الكريمة وشوّه سمعتها بين القبائل. تتوفر الفنانة إنعام عبد المجيد – وهي القادمة من حقل البرامج الثقافية التلفازية إلى السينما – على قدرات تعبيرية هائلة جعلتها تهزّ المُشاهدين في هذا الفيلم على الرغم من أن معالمها الخارجية تشي بأنها أصغر من سن الأم (حنوة) بكثير، كما أن لهجتها الجنوبية قد جاءت منسجمة تماماً مع الدور الذي تؤدّيه. ثمة استثناءات محدودة يمكن أن تعرّضها للانتقاد مثل عدم قدرتها على تحريك حطب التنّور المشتعل بذات القوة نألفها عند النساء القرويات فقد بدت أضعف بكثير منهن وكانت تحتاج إلى إعادة تصوير بعض اللقطات التي لم يرصدها (الراكور) هنا وهناك كي تستقيم الأمور في نصابها الصحيح. وبمناسبة أدائها التعبيري المتقن الذي أوصلتهُ إلى الجمهور وأشعرَتنا به فإنها تستطيع أن تنجح في تأدية أدوار عاطفية لفتاة شابة أو لامرأة ناضجة في مطلع الثلاثينات لأنها تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لمثل هذه الأدوار  الجذابة التي تضعها في قلب الدوائر الضوئية من جديد.

وما دمنا في سياق الحديث عن الأدوار النسائية فإن زوجة الراعي التي لعبت هذا الدور (نهار سدايو) لم تكن مقنعة تماماً فمن غير المعقول أن تكون زوجة الراعي مغرية إلى هذه الدرجة وترتدي كل هذه الملابس الملونة التي تنمّ عن ذائقة رفيعة يندر أن تجدها لدى نساء القرى والأرياف العراقية. كما أن مشهد الاستحمام قد بدا فائضاً عن الحاجة ولا تكمن خلفه أية ضرورة فنية اللهم إلاّ لكسر الإيقاع الدرامي الحزين وإمتاع بصر المتلقي ببعض اللقطات الحميمة التي قد تُخرجه من جو المأساة وتُدخله في جوّ البهجة والاسترخاء. وعلى الرغم من خفة ظل السيدة نهار إلاّ أن ألفاظها ومخارج حروفها كانت تحتاج إلى خبير لغوي لكي يضعها في سياق اللهجة المحكية لأهل الجنوب (وحسجتهم) الجميلة.

المخرج العراقي رعد مشتت

ربما يتساءل البعض عن السبب الذي دفع كاتب النص ومخرجه رعد مشتت أن يلجأ إلى ثيمة قديمة وهي (النهيبة) أو (الخطيفة) كما يسميها أهل الشام؟ ويبدو أن الخيارات المتاحة أمامه كانت ضئلية جداً ولم يستطع أن يبرّر غياب (زهرة) الطويل إلاّ عبر  تجسيد فكرة (النهيبة) فلا غرابة أن تتجه الأنظار صوب سعود بوصفه عاشقاً مدلهاً ربما يكون قد أحبَّ (زهرة) سرّاً أو علانية. وبما أن رعد مشتت هو مخرج محترف، ومطوِّر لصنعته السينمائية فقد خطّط لبعض المفاجآت هنا وهناك. وربما تكون عودة (سعود) من الأسر هي واحدة من هذه المفاجآت التي قلبت توقعات المتلقين رأساً على عقب.

قد يكون غياب (زهرة) هو مجرد ذريعة لتناول فكرة الإبادة الجماعية، الثيمة الرئيسة للفيلم، إلاّ أن المخرج رعد مشتت أراد التنويه إلى قضية ترييف المدن العراقية، كما ذكر في حديثه بعد عرض الفيلم مباشرة حيث تعرضت معظم المدن العراقية إلى هذه الظاهرة وتسيدت فيها منظومة العادات والتقاليد العشائرية على القيم المدنية المتحضرة ولعل الدور الذي جسّده محمود أبو العباس وإنعام عبد المجيد هو خير دليل لما نذهب إليه.
لابد من الإشارة إلى قوة حضور الفنان أحمد شرجي في دوره المبتسر الذي يُذكّر المُشاهد بيهمنته في أدواره السابقة سواء في المسلسلات الدرامية العراقية أم في بعض الأفلام العراقية فهو طاقة متجددة يمكن توظيفها في أدوار قادمة أكثر عمقاً وأطول زمناً. وخلاصة القول إن هناك العديد من الممثلين الذين اشتركوا في (صمت الراعي) قد جاؤوا من خشبة المسرح وعلى رأسهم محمود أبو العباس، أحمد شرجي، آلاء نجم وغيرهم لكنهم جميعاً كانوا متماهين في شخصيات هذا الفيلم ومندمجين معها وهذا هو أحد أسرار نجاح هذا الفيلم الروائي لرعد مشتت الذي يعِدنا بالكثير.

يجب ألا ننسى أهمية التصوير الذي برع فيه المصور الفنان زياد تركي فقد أنقذ الفيلم من أخطاء محتملة قد يرتكبها آخرون في حال غيابه. وفي السياق ذاته لابد من التنويه إلى جمالية الموسيقى التي أبدعها دريد فاضل، واللمسات المونتاجية لمحمود مشتت. فالسينما، كما هو معروف، عمل جماعي تهيمن عليه روح الفريق ولا تتيح للأنا المتضخمة أن تستبد بالآخرين وتغمط حقهم في الظهور مهما تضاءلت المساحة وتحجّمت الأدوار.


إعلان