الزئير الأخير للأسد البريطاني
محمد موسى

يبدو أن هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) قد حزمت أمرها بشأن الحرب العسكرية الأخيرة التي خاضتها بريطانيا في أفغانستان، وحتى قبل إنتظار نهايتها الرسمية (من المقرر أن تكون في نهاية هذا العام إذ ستنسحب القوات البرطانية بالكامل وبلا رجعة من بلد المتاعب ذاك). فالفيلم التسجيلي الطويل الذي عرضته القناة الثانية لهذه المؤسسة البريطانية الإعلامية العملاقة بعنوان “أفغانستان:زئير الأسد الأخير” للمخرج ريتشارد ساندرز، وصل إلى خلاصات حازمة ومُكتملة حول تلك الحرب، ظروفها وآثارها وعواقبها. لا يعني هذا بالطبع أننا لن نشاهد أفلام جديدة عن تلك السنوات العنيفة، فمن المؤكد أن هناك الكثير من الأعمال التسجيلية القادمة التي ستبحث في القصص الإنسانية الصغيرة والمجهولة من السنوات الثلاثة عشر للوجود البريطاني في أفغانستان، إلا أن الإطار العام الذي قُدّم فيه هذا الفيلم سيهيمن على الأرجح وبدون تغييرات جذريّة على أعمال قادمة، كما المُحصلاّت النهائية، أي هزيمة وتخبط بريطانيين كبيرين، وخسائر بشرية اقتربت من الخمسمائة جندي بريطاني قتلوا هناك، وآثاركبيرة تتعلق بمكانة بريطانيا كدولة عظمى، إذ يبدو أن الحرب تلك ستكون الأخيرة التي تخوض فيها قوات بريطانية معارك برية في دول أخرى. الحرب تلك ستكون الأخيرة التي يسمع العالم فيها زئير الأسد البريطاني في مناطق العالم المُشتعلة!
يُشبه الفيلم البريطاني هذا البرنامج التسجيلي الضخم “حرب العراق”، والذي عرضته المؤسسة نفسها في بداية هذا العام. فالعملين يسعيان إلى تقديم عرض تاريخي مُفصّل لحربين معاصرتين انتهيا للتو، فيما آثارهما لازالت ماثلة ومتواصلة. سيكون العملان التسجيليان مدعومان بشهادات عشرات الشخصيات المهمة التي وافقت على الظهور في الوثائق التسجيلية هذه، والتي لا يستطيع إلا عدد محدود من القنوات التلفزيونية جمعهم وكما تفعل قنوات “بي بي سي” كل مرة. حيث يحضر في الفيلم الأخير هذا: سياسيون وقُوَّاد بريطانيين سابقين، زعماء محليين أفغان حظوا بمناصب كبيرة في السنوات الأخيرة، كما يُقدّم مقاتلون من طالبان نفسها شهادات عن حربهم الشرسة ضد القوات البريطانية. وهناك أيضاً الأفغان العاديون، والذين سيعودون إلى سنوات العنف، وكيف خذلهم الوجود الأجنبي في بلدهم.

ثلاثة عشر عاماً يُقدّمها الفيلم البريطاني، منذ أن وصلت القوات العسكرية البريطانية إلى أفغانستان، وكأحد نتاج الحرب على تنظيم القاعدة. لم يعَلّق الفيلم طويلاً بالظروف التي دفعت الحكومة البريطانية للوقوف مع حليفتها الأمريكية في حربها ضد الإرهاب. وكأن هذا موضوع يستحق اهتماماً منفصلاً، هو بالمقابل يبقى مع الوجود البريطاني في أفغانستان، والذي بدأ بداية سلميّة، بل تكاد احتفالية، وانتهى دموياً وهزيمة فعليّة لتلك القوات. يعرض الفيلم في هذا السياق مشاهد أرشيفية من بدايات وصول البريطانيين الى البلد، وكيف انشغلوا وقتها بأعمال مدنيّة ترفيهية، كتنظيم مباراة كرة قدم بين جنود بريطانيين وأفغان. لكن حتى تلك المناسبة لم تكن بعيدة عن التاريخ العنيف للبلد الآسيوي، فأحد الذين نظموا المسابقة كشف للفيلم أن فريقه، وأثناء تحضير ملعب كرة القدم، وجدوا جثثاً لمدنين، يقال إن حركة طالبان أعدمتهم في سنوات حكمها. لا يستطيع الفيلم الفكاك من التاريخ القديم أو المعاصر، وكيف يُمكنه ذلك، وأفغانستان نفسها كانت مَسْرَح لحروب كبيرة بين الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر والقوى المحليّة هناك. هذا التاريخ سيتحول إلى لعنة، فعندما يقع اختيار بريطانيا على منطقة “هيلموند” لتكون مركزاً لقواتها، سيكونون جغرافياً قريبين كثيراً من موقع معركة شهيرة من القرن التاسع عشر هُزِمت فيها القوات البريطانية، الأمر الذي جعل كثير من الأفغان يعتقد أن الإمبراطورية العجوزة آتية للقصاص من البلد وناسه على هزيمة سابقة.
يَجمع الفيلم بين المشاهد الأرشيفية والحوارات مع شخصيات مختلفة، منهم من حركة الطالبان نفسها (لم يفصح الفيلم عن ظروف تسجيل الأخيرة). سيتحدث أعضاء من حركة الطالبان وبكثير من الفخر عن الضربات المُوجعة التي ألحقوها بالبريطانيين. يذكر أحدهم أن أعضاء من الحركة قاموا بالتسلل إلى القرى المدنية ثم قطعوا أطرافاً لهم، على أمل وصول إسعاف طبي بريطاني، لتنفيذ عمليات إنتحارية بهم، والتي أدّت إلى مقتل كثيرين. لم يبدُ الفيلم مشغولاً بمعرفة الأسباب التي جعلت “الطالبان” يحملون كل هذا الغضب على أعدائهم، ربما لأن هذه الأسباب معروفة، وربما لأن البلد كله يبدو بلا أمل. فهناك من البريطانيين من سيكشف أن الحكومة الأفغانية المُنتخبة واصلت الفساد نفسه للقادة المحليين قبلهم وزادوا بفضائح جديدة، فوزير التعليم المُنتخب في الحكومة الأفغانية الأولى لا يعرف القراءة والكتابة، وقادة الحروب السابقين بعللهم وتاريخهم الدمويّ تحولوا إلى زعماء العهد الجديد، وهو الأمر الذي عجّل بنهاية شهر العسل بين الأفغاني العادي وبين الأجانب في بلده. وخلف كل هذا، هناك “الطالبان”، الحركة القوية الشرسة التي مرَّ الفيلم قليلاً على إدمانهم على المخدرات التي يزرعوها في حقولهم الواسعة، ونقل كيف قام مدمنون من التنظيم بقتل فتيات صغيرات كُنَّ في طريقهم للمدارس، أو يصلون بعملياتهم العسكرية بكل جرأة إلى الرئيس المنتخب للتو حامد كرزاي نفسه، كما وقع في زيارته الأولى إلى مدينة قندهار. يقدم الفيلم في هذا الخصوص مشاهد أرشيفية مُرعبة للزيارة تلك، وكيف أن مجموعة الشباب الأفغان الذين كانوا يرحبون بالرئيس وظهروا في بداية المشاهد، غرقوا بعد ثواني قليلة بدمائهم بفعل الرصاص الذي انطلق من كل الإتجاهات، لتكون هذه عملية الإغتيال “هدية” ترحيب حركة طالبان للرئيس حامد كرزاي. والذي كشف خبير بريطاني بأن هذا الأخير الذي يسكن في العاصمة كابول، لا يكاد يُسيطر على حي واحد في البلد الواسع الذي لا يتوقف عنفه.

سيحتلّ الماضي الاستعماري لبريطانيا في أفغانستان على مساحة كبيرة من اهتمام الفيلم، فيتم العودة إليه مرات عدة عبر شهادات أفغان عاديين مثلاً، جزم معظمهم أن بريطانيا لم تنسَ هزائم الماضي، وهي في البلد اليوم فقط من أجل الثأر لتلك الهزائم. يروي أحد الزعماء المحليين قصة عن جندي بريطاني نقل إليه أن الملكة البريطانية الحالية إليزابيث الثانية، أوصته شخصياً بأن يبذل جهده للقصاص من قتلة أبناء مملكتها في القرن التاسع عشر. هذا الأفغاني لا يعرف بالتأكيد
أن الملكة البريطانية لا تتدخل في السياسة مطلقاً، وأن تصريح من هذا النوع سيعني هزة في بريطانيا.
في السياق نفسه، سيكشف خبراء بريطانيون أن تخلّي بريطانيا عن تقاليد ماضيها الاستعماري، لجهة بحثها المستفيض في تاريخ الشعوب وعادتهم كما اعتادت في الماضي، وربما كان هذا السبب في إخفاقها في أفغانستان، فكل الدلائل تشير أن بريطانيا لم تكن جاهزة لتغيير البلد، حتى أن حضورها العسكري كان متواضعاً، ولا يناسب المناطق الشاسعة التي من المفترض أن يغطيها نفوذها.
تثير أعمال تسجيلية مثل “أفغانستان:زئير الأسد الأخير” كثير من الجَدْل واللغط، وربما هو بالضبط ما تنشده هذه الأعمال. فهناك من يعيب على هذه الأفلام سرعتها في معالجة أحداث تاريخية تحتاج إلى رويّة ومسافة زمنية ما. لكن من المهم الانتباه أيضاً أن هذه الأفلام تحاول أن تُسجل شهادات مُهمة خلال حياة أصحابها أو قبل أن تضيع كثير من التفاصيل في النسيان. كما أن “أفغانستان” تبدو حالة خاصة وخارج كل المقاييس المعروفة. فهي البلد التي تبدو بانتظارها أيام أشدّ صعوبة من التي شهدتها طوال العقود الماضية وبعد انسحاب القوات الأجنبية منها. تبدو البلد مثل “الحديقة العامة” التي شيدتها القوات البريطانية في مقاطعة ” هيلموند ” للفوز بقلوب أبناء المناطق السكنية وقدمها الفيلم بمشاهد متميزة بقنوطها وفراغها، وهي اليوم جرداء قاحلة، أما الناس الذين يمرّون بها يومياً فهم رجال مسلحون بوجوه مُتهجّمه، وليس بينهم نساء أو أطفال، والذين شُيدت الحديقة العامة من أجلهم.