“صدى الجبل”: الفنان المجهول والشعب المفقود!

أمير العمري

الفيلم الذي نحن بصدد عرضه للقراء هنا، ليس مجرد فيلم عن شخصية، أو كما قد يراه البعض، “بورتريه” لفنان، بل هو أكبر كثيرا من هذا، فهو فيلم عن فنان ورجل في محيط بلده وناسه وعصره، أي أنه فيلم عن الفنان وعن ثقافته الخاصة وعن البيئة التي جاء منها ولايزال يعيش فيها، ما الذي تعرض له “شعبه” الذي يُعتبر شعب السكان الأصليين في المكسيك، الذين يطلق عليهم الغربيون “الهنود”، وما تتعرض له ثقافتهم وفنونهم وخصائصهم المشتركة بعد أن ظلت صامدة لقرون، من تدمير ودمار بما يهدد بانقراضها تماما.

“صدى الجبل”.. هذا الفيلم الوثائقي البديع الذي عُرض في مهرجان سان سباستيان ومنه إلى مهرجان أبو ظبي السينمائي، هو من إخراج المخرج المكسيكي الكبير نيكولاس إتشيفاريا (68 عاما) الذي أخرج 20 فيلما ومسلسلا تليفزيونيا عبر 40 عاما من العمل، وهو يقطع في فيلمه هذا، رحلة طويلة تستغرق سنوات، مع بطله- سانتوس دولاتور- في مساحة جغرافية شاسعة من جبال سييرا ماديري أوكسدنتال في المكسيك، وسط الذين ينتمي إليهم سانتوس والمنتمين إلى الوتشول أي السكان الأصليين، ولهم بالطبع لغتهم الخاصة وتقاليدهم بل وديانتهم القديمة أيضا التي يسعى الفيلم في جانب منه، إلى عقد مقاربة بينها وبين المسيحية.
سانتوس هو الفنان الشهير الذي اشتُهر بجدارياته العملاقة، وهو يستخدم في رسوماته الألوان البراقة الزاهية بالأقلام الملونة، وله طريقته الخاصة في استخدام الألوان، بل إن الرسم عنده كما عند “الوتشول” عموما، طقس ديني فيه نوع من التقرب للآلهة، أو أنه يُعَدّ تجسيدا لنظرة الآلهة وتطلُّعها إلى البشر من خلال الرسم والأشكال البديعة الفريدة التي نراها في تكوينات سانتوس ديلاتور.

سانتوس رجل بسيط، فهو في الأصل فلاح فقير يرتدي الملابس التقليدية لسكان جبال المكسيك، يعيش رغم شهرته الكبيرة كفنان موهوب لا يضارعه أحد، في عزلة تامة عن العالم، لا يبحث عن الأضواء ولا يسعى إليها. وهو لم يكن موجودا عام 1997 عندما افتتح الرئيس الفرنسي جاك شيراك مع الرئيس المكسيكي إرنستو زيديللو تعليق جدارية الفنان في محطة مترو الأنفاق القريبة من متحف اللوفر في باريس، وسط اهتمام إعلامي عالمي كبير بهذا العمل. لكن أحدا لم يسأل أين الفنان الذي صنع تلك الجدارية العبقرية الفريدة؟ فلم توجَّه الدعوة إلى سانتوس. ومن هذه النقطة تحديدا، ينطلق الفيلم لكي يعرض لنا تاريخ الوتشول في المكسيك، وكيف تم تجاهلهم باستمرار من جانب الحكومات الوطنية عبر العصور، وكيف تجاوزتهم كل مشاريع التنمية دون أن تلمسهم، وظلوا يكافحون الفقر والمرض وقلّة الموارد الطبيعية إلى أن أصبح وجودهم اليوم مُهدَّدا بالزوال. لقد أصبحت أرض الوتشول نهبا مباحا لشركات زراعة الطماطم وأصحاب المناجم، واستُبعد السكان الأصليون وتم تهميشهم تماما.

رحلة اكتشاف

يصحب المخرج سانتوس ديلاتور وأسرته عبر الجبال في طريق يدعى طريق البيوتي، يبلغ نحو 600 كيلومتر، إلى البقاع المقدسة في ويريكوتا أو أرض البيوتي.. والبيوتي هي تلك النباتات أو الأزهار الطبيعية التي تنمو هناك ويستخدمها السكان الأصليون منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، لأغراض طبية ودينية فهي أزهار مقدسة، نرى السكان وهم يقرأون عليها التعاويذ الدينية تقربا من الله كما يعتقدون، ومنها أيضا يستمد الفنان، الكثير من نقوشه وتشكيلاته البديعة. وهناك.. في تلك الأرض الجبلية المقدسة يقف سانتوس، يتضرع إلى “الآلهة” أن تتاح له الفرصة لعمل جدارية جديدة يُعبّر فيها عن تاريخ ومعتقدات وطقوس شعبه. ونتابع نحن عبر الفيلم، بين حين وآخر، في سياق شعري خلاب، كيف يواصل سانتوس استكمال تلك اللوحة الضخمة الأسطورية، على خلفية الموسيقى الشعبية التي يستخدمها المخرج عبر أجزاء فيلمه، من خلال أسلوب يجعل الصور تسيطر على حواسك وإدراكك حتى النهاية.
ينتقل الفيلم طول الوقت، بين الخاص والعام، الفردي والجمعي، الفني والسياسي، الأسطوري والديني، ولكن من خلال أسلوب شاعري رقيق لا يقحم شيئا على المشاهد ولا يفرض رأيا بل يكتفي بالعرض وتقديم المعلومات بصوت المخرج أو من خلال رؤيته الخاصة وهو الذي ولد ونشأ في منطقة قبائل الوتشول وعاش بينهم ودرس عاداتهم وتقاليدهم كما شهد كيف أصبحت ثقافتهم وتراثهم التاريخي معرضين للخطر، فاهتم بالتعبير عنهم في أفلامه منذ عام 1973.

 
ولا ينطلق اهتمام المخرج بتاريخ وثقافة الوتشول من نظرة عالم الاجتماع أو علم الأجناس البشرية (الانثربولوجي) بل من نظرة السينمائي، الفنان صاحب الرؤية الخاصة، التي تعكس الكثير من التعاطف والفهم والرغبة في لفت أنظار العالم إلى هؤلاء الناس، حياتهم وعزلتهم المخيفة في الجبال.. وهي العزلة التي يقول إنها ربما كانت تلعب دورا في الحفاظ بشكل ما عليهم وعلى تقاليدهم ضد غزو “العالم الحديث”، إلا أنها في الوقت نفسه، تُعدّ بمثابة سور يحيط بهم ويمنع وصول التنمية والحضارة الحديثة إليهم، فالكثير من قراهم لاتزال بدون كهرباء، محرومة من التعليم والخدمات الصحية، ويضطر الكثيرون منهم للترحال بعيدا إلى المدن لتلقي التعليم، ولكن دون أن ينسوا ثقافتهم أو انتمائهم الحقيقي. وسانتوس اسمه الحقيقي في لغة الوتيول “موتوبوا” وتعني “صدى الجبل” ومنها يستمد الفيلم اسمه.

يتحدث سانتوس دولاتور في الفيلم بالإسبانية التي يجيدها بالطبع، ويتحدث بلغة الويشتول مع أهله ورفاقه، ونراه في المرسم الخاص الذي استأجره في البلدة التي يقيم بها، بالقرب من أرض أجداده، يمارس العمل، كما نراه وهو يشتري الأقلام التي سيستخدمها في رسم جداريته الجديدة التي يأمل أن تكون الأشمل والأعظم في تاريخه الفني، تتابعه الكاميرا في تحركه وسط البلدة كما تتابعه وسط عشيرته وأهله في الجبال وهم يمارسون طقوسهم الدينية باستخدام نبات البيوتي. ويسير الفيلم قدما، مع رحلة بطله وسط الجبال، وحديثه للمخرج، والمغزى الخاص لرسوماته، بما تحتويه من إشارات ورموز دينية وثقافية، ونتابع كيف تتطور الجدارية الضخمة التي نراها في نهاية الفيلم وقد اكتملت وأصبحت “أكبر من الحياة”!

يقول المخرج إتشيفاريا: “فيلمي يتحدث عن العلاقة بين منطقة “ميسا ديل فينادو” التي جاء منها الفنان، وبين الكوخ الذي يقيم فيه سانتوس وسط الجبال، وبين باريس التي تعتبر قلب الحياة الثقافية الأوروبية. إنه يتحدث عن المغزى الديني لفنون الوتشول، بساطة الفن المعاصر، ما هو إنساني، وما يتجاوز ذلك إلى الروحاني. يعتقد سانتوس، باعتباره من الوتشول، أنه يتعين على البشر الاهتمام بآلهتهم من أجل أن تقوم الآلهة بدورها في حماية البشر ومساعدتهم. ويتمثل هذا في ضرورة حماية الأرض والمناطق المقدسة. ويرى أن التوسط بين الإنسان والآلهة من مسؤولية الإنسان، ويتمثل هذا الوسيط في القرابين والحفاظ على الحياة نفسها. وبالمقابل سيستمر الآلهة في تزويد الإنسان بالمطر والحصاد، ومنحه الصحة والحكمة”!

أيا كان رأينا الشخصي في هذه المعتقدات التي يؤمن بها أناس لم تمسّهم يد الحياة الحديثة بعد، ولم تصل إليهم دعوات الأديان كما ينبغي، بل أُهملوا وأصبحوا خارج الزمن، إلا أن هذا لا يحول بيننا وبين محاولة فهمهم والاقتراب منهم ومن وسائلهم في التعبير، وتفهُّم إحباطاتهم وآلامهم، فهم في النهاية، يعيشون على كوكبنا الأرضي الذي يواجه يوميا الكثير من الانتهاكات من جانب الكثير من البشر أنفسهم!


إعلان