وجوه بيروت المتناقضة
محمد موسى

يقف داني غصن مع زميله الهولندي يوهان إيكيلبووم على قِمّة جَبَل لبناني. المنظر من الأعلى جميل، بل آسر. الأرض بيضاء بفعل الثلج الخفيف، والأُفُق يكاد يمتدّ، لولا بعض الضباب، إلى ما لا نهاية. في أسفل الوادي، والذي لا يمكن رؤية نهايته من أعلى الجبل، تقع أرض “داعش”، التي تمركزوا واستولوا عليها منذ فترة قصيرة. يكفي ذكر اسم التنظيم وحده لفرض هالة قاتمة من الخوف والقنوط على الحياة في أعلى الجَبَل. يجمع المشهد هذا، والذي قُدِّم في الفيلم التسجيلي الهولندي “أعياد ميلاد في بيروت”، التناقضات الصارخة للعاصمة اللبنانية، ويبرز مرة أخرى قَدَرها التراجيدي، بين العيش على أطراف منطقة مشتعلة، وخصوصيتها ضمن محيط يكاد يتشابه في كل شيء. هذه الاختلافات هي التي تُشكِّل وجه بيروت اليوم، المدينة التي تريد أن تنسى ما حولها، عبر الإغراق في عادات حياتيه مُتطرّفة في بذخها. كما يمكن تفسير أنماط الحياة المختلفة والمتباينة في المدينة، على أنها تفاعلات خارجة من بَوتَقة واحدة. فشبح الحرب الذي يُهدِّد المنطقة، يَدفع كُثر إلى التطرُّف في طُرقهم لارتشاف الحياة وحتى الرمق الأخير.

يعود داني غصن إلى المدينة التي تركتها عائلته قبل خمسة وعشرين عاماً، هرباً من الحرب اللبنانية وقتها. هو يعمل منذ سنوات في التلفزيون الهولندي كمقدم وصانع أفلام تسجيلية. أما يوهان إيكيلبووم، فيزور المنطقة للمرة الأولى. مناسبة الفيلم التسجيلي “أعياد ميلاد في بيروت” ، الذي عُرض ضمن برنامج “3 يحقق” التسجيلي التلفزيوني، هو البحث مجدداً في أسرار المدينة وتناقضاتها، على خلفية الأحداث السياسية الأخيرة، منذ الربيع العربي وصعود “داعش”. فبجانب الثراء الكبير في البلد، هناك فقر، ومايقارب من مليوني لاجيء سوري قذفت بهم حرب بلادهم إلى الجارة الصغيرة، حيث يعيش جلّهم في فَاقَةٍ شديدة وظروف قاسيّة، كشف بعضها الفيلم، الذي زار مُخيمات اللجوء في البلد. يزيد هؤلاء اللآجئون بحضورهم المأساوي من أزمة المدينة، ويضع البلد كُله في قلب المنطقة المُضطرب.

يهمين النفَس الشبابي على الفيلم التسجيلي، الذي أنتجته القناة الهولندية الثالثة، والتي تتوجه إلى المشاهدين الشباب بشكل عام. لكن هذا “النفَس الشاب” لن يمنع العمل من التعرُّض لموضوعات صعبة. فإلى جانب تغطية حياة الليل في بيروت، حاول الفيلم أن يُقدِّم الوجه الآخر للحياة في المدينة، فيذهب إلى بيوت فقراء، حاملاً أحياناً هدايا للأطفال. كما يتوجّه إلى خيم اللاجئيين السوريين، ويُقدِّم تفاصيل مؤلمة عن الشتاء القاسٍ ببرده والذي يواجهوه هناك. يلتقي الفيلم فتاة هولندية تعمل كمتطوعة، تُنظم نشاطات للأطفال هناك. عندما سأل الفيلم الفتاة كيف تتحمل أن تعيش وسط كل هذا العذاب، ردّت بحزن واضح، أنها قادرة على الرحيل متى تشاء، لكن مُعظم سكان المخيم عاجزين عن المغادرة، وهذا يهوِّن عليها الحياة هناك.

مُتطوّعة المخيم الهولندية لن تكون الوحيدة القادمة من البلد الأوروبي الصغير، فالفيلم يصادف هولنديين، يعملون في الجانب الآخر الغني من المدينة. أحدهم يعمل في الفندقة، ويعيش منذ سنوات في لبنان بعد أن تزوج فتاة من هناك. يعمل الهولندي اليوم في منتجع للتزلج يقصده أثرياء. يُصرّ الهولندي ورغم ضبابية المستقبل في لبنان، أن الحياة هناك أفضل من غيرها، فهو الهارب من كثرة القوانين في بلده، أعجبه قلّتها في البلد الشرق أوسطي. الفيلم قابل هولندي آخر يعمل في إِضاءة النوادي الليلية، كشف أن ما يُصرف في لبنان على السهر، يفوق كل البلدان التي مرَّ بها في عمله.
ينضوي الفيلم تحت فئة الأعمال التسجيلية التي تريد تقريب قضايا العالم لجيل من الشباب، من الذي لا يتابع أحياناً مشاكل بلده الخاصة، ناهيك عن مشاكل الآخرين. يستعين العمل بمفردات أصبحت لازمة للأعمال التي تتوجّه للمشاهد الشاب، كالتوليف السريع والكوميديا التي توزَّع في ثنايا تلك الأفلام. يحسم نجاح هذا النوع من المُقاربات الفنيّة قدرتها على الموازنة بين “الجدّ” و “الهزل”، وما تتركه من انطباعات نهائية عند المشاهد. “بيروت” التي قدّمها الفيلم الهولندي هذا، هي مدينة التناقضات بلا منازع. تبدو المدينة وكأنها تغلي على فوهة بركان ، وناسها، الذين مرّوا بحرب أهلية طويلة، كأنهم يلتقطون الأنفاس فقط، قبل أن تهب عليهم عاصفة جديدة أُخرى.