“الاغتصاب كسلاح في الحرب”.. إستراتيجية الإذلال المعنوي وكسر الكرامة الإنسانية

لتجنّب التعميم في تناول ظاهرة الاغتصاب في الحروب واستمرارها حتى يومنا هذا، اقترح الوثائقيُّ الدانماركي “الاغتصاب كسلاح في الحرب” البناءَ على التجربة اليوغسلافية، باعتبارها مثالا صارخا لانتهاكات الأعراض، وما زالت تفاصيلها حاضرة في أذهان ضحاياها، ولا سيما النساء البوسنيات اللواتي تعرضن لعمليات اغتصاب ممنهجة من قبل الجنود الصرب، خلال الحرب الأهلية التي انتهت منذ ما يقارب عقدين من الزمن.

أما بالنسبة للمُغتَصبات فإن جروحهن الروحية والجسدية لم تلتئم بعد، وستظل ما دام المغتِصبون أحرارا لم ينالوا العقاب الذي يستحقونه كمجرمي حرب.

وبناء على هذا الإحساس العالي بالإذلال والقهر الذي سمعته المخرجتان “كاتيا فوربيت بيترسن” و”آنيت ماري أولسن” من النساء البوسنيات، قررتا التركيز على تجربتهن ووجدتا في “جمعية نساء ضحايا الحرب” في سراييفو ملاذا رحبا، فيه يمكنهن مقابلة النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب وجها لوجه والاستماع إلى شهاداتهن.

اغتصاب الجسد والروح.. جريمة الحرب المسكوت عنها

بعد اتساع مساحة الرصد والتسجيل لمناطق ومساحات كبيرة من البلاد، وجدت المخرجتان أن حصيلة الشهادات الحية للضحايا المنسيين تكفي لإنجاز وثائقي يرمي إلى تناول الاغتصاب، باعتباره فعلا انتقاميا مبرمجا في كل الحروب يتخذه قادة الجيوش استراتيجيّة ثابتة لهم، لتحطيم معنويات خصومهم وإذلال نساءهم.

يُغطِّي الحزن الطاغي في أرواح البوسنيات المغتصبات مساحة كبيرة من الفيلم، ويجمع حوله كل اللواتي مررن بالتجربة التي لا يمكن لأحد غيرهن الإحساس بها، بل يصعب حتى بالنسبة لعدد كبير منهن توصيف حالة الاغتصاب كفعل همجي عصيّ على الكتاب وصفه وعلى صانعي الأفلام تصويره بالدقة التي تشعر به المرأة لحظة اغتصابها، والأصعب على الجميع تحديد طبيعة الشعور الدائم بالمهانة والإذلال اللذين يصاحبان المغتصبة بعد مرور زمن طويل على انتهاك جسدها.

ومن تبعات الاغتصاب الشعور بالخجل والعار عند الضحية وأقربائها، ومن هذه النقطة -التي تعمل الجمعية التطوعية على تذليلها- شرع الوثائقي في الكشف عن مساحة “الحظر” الناتج عن الاعتداء الجنسي، فوجد أنه ما زال منتشرا، ويفضل كثير من الناس السكوت عنه.

لكن هل بإمكان الضحية السكوت والقبول به، وهي تشعر في كل لحظة من حياتها بالمهانة والتدنيس الجسدي؟

عزوف عن الحياة الزوجية.. مأساة الاغتصاب المركب

المذهل في هذا المنجز الوثائقي أنه يقدم لوحة بانورامية لمفهوم الاغتصاب من زاوية تطبيقية فيها من المكاشفة الكثير، وربما لا يعرفها إلا علماء النفس والأطباء النفسانيين الذين يعالجون الحالات ذات الصلة بالموضوع الشائك والخطير.

الاغتصاب المركب للأم البوسنية وابنتها ينتح إحساسا مضاعفا بالذنب عند المرأة

تتعقد فكرة التسامح التي ينشدها العقلاء بعد نهاية كل حرب، وتصعب قبول فكرة العفو عن الجاني إذا لم يتلق عقابه، ويَصعب الأمر بدرجات أكبر، كلما كان فعل الاغتصاب مركبا، كأن تتعرض أم وابنتها للاغتصاب كما حدث لكثير من البوسنيات، لأنه ينتح إحساسا مضاعفا بالذنب عند المرأة، يُشعرها بضعفها وعدم قدرتها على حماية نفسها وابنتها.

وكثير من اللواتي التقى بهن الوثائقي تمنيَّن لو أنهن وحدهن تعرضن للانتهاك، وظلّت بناتهن بعيدات عن العذاب الذي يشعرن به، والذي يترك آثارا نفسية وجسدية مدمرة، أكثرها قسوة عدم قدرة الشابات منهن على الإنجاب، وعجز النساء بشكل عام عن ممارسة حياتهن الزوجية العادية، ناهيك عن الحزن والقنوط وعدم الرغبة في الحياة التي يتركها فعل الانتهاك.

سلاح الاغتصاب.. وسيلة الإذلال في الحروب المعاصرة

تعتبر الأدوية المهدئة عنصرا فعّالا في معادلة الإذلال، فلولاها لما بقي كثير من البوسنيات على قيد الحياة، لكن بسبب العلاج وتركيباته تنضب وتذوب أجسادهن وأرواحهن مثل شمعة، لدرجة يتساءل المرء فيها تُرى مَن الذي توصل إلى فكرة اغتصاب نساء العدو؟ وهل طُبّق هذا الفعل في كل الحروب؟

ولتقديم مقاربة تاريخية، يدخل الوثائقي الموضوع من بوابة الحروب، فيقدم تصوّرا شاملا للفعل، من خلال جمعه وثائق وأشرطة فيديو وتسجيلات صوتية في غاية الأهمية والإقناع.

وضمن مساحته الزمنية المحدودة، حاول الفيلم حصر المعطيات في الحروب المعاصرة، سواء كانت عالمية أم إقليمية ومحلية كما في حالة يوغسلافيا السابقة، لأن الفعل لم يقتصر على المقاتلين الصرب، بل شمل الكروات والبوسنيين، وهذا -كما سيتضح- له علاقة بطبيعة الفعل الجنسي المخزي الذي يدفع المقاتلين من كل الجهات لارتكاب نفس الفعل ضد نساء خصومهم، وبشكل غريزي أحيانا، لكنه في الحقيقة ممنهج من قبل قادتهم الذين يتخذونه سلاحا فعالا في الحرب، يُراد منه بالدرجة الأولى إجبار الخصم على ترك مكان إقامته والهرب بعيدا.

طرد القوميات المنبوذة وتشتيت المحاربين.. خطة الحرب

كما يُحلّل الخبراء للوثائقي كيف أن قادة الصرب خلال السنوات الأولى من الحرب تعمدوا وأوصوا جنودهم بارتكاب الاعتداءات الجنسية في مناطق محددة، حتى يسهل عليهم التخلص من مجموعات تنتمي إلى قوميات غير مرغوب في وجودها بينهم، وهذا ما اتفق عليه الهاربون من بيوتهم في منطقة فوتشا البوسنية.

يلجأ جنود العدو إلى اغتصاب النساء كي لا تجد العائلة وسيلة غير الهرب من الفضيحة واللوم

لقد اكتشفوا أن البيوت التي تعرضت نساؤها للاغتصاب هي تلك البيوت التي كانت موجودة في منطقة أغلبية سكانها من الصرب، ولكي يطردوهم منها فقد تعمدوا ممارسة فعل يلحق العار بالعائلة كلها، فلا تجد وسيلة غير الهرب من الفضيحة واللوم.

والتأثير المؤكد للاغتصاب هو قدرته على تشتيت تركيز الرجال في جبهات القتال وجعلهم أسرى التفكير بنسائهم وبناتهم. وكل الشهادات المقدمة لمحكمة لاهاي تدعم هذا الاستنتاج، ولهذا طالب الضحايا بتوجيه تهمة “مجرمي حرب” لقادة الجيش الصربي.

شهادة المحامية.. كشف الأدلة البشرية التي طمرها الجيش

من مميزات فعل الاغتصاب ملازمة تفاصيله لذاكرة الضحية، فالشعور بالخزي يبقى لعقود من الزمن، وشهادات النساء البوسنيات المسجلة بمرارة تقدم صورة نادرة عن قساوة الإحساس الدائم بالخزي، ولا سيما عند النساء اللواتي أنجبن أطفالا بعد الاغتصاب.

ضحية بوسنية من ضحايا الحرب تتحدث عن خجلها كلما تذكرت حادثة الاغتصاب

وفي شهادة محامية من فيشيهراد يتضح جانب إضافي لسلاح الاغتصاب في الحرب، يتمثل في محاولة تصفية المغتصبات ومحو كل أثر للفعل المهين من قبل الجُناة. وتدور شهادتها الموثقّة أمام محكمة لاهاي الدولية حول مقتل عدد من الجنود الأسرى في المعسكر القريب من المدينة، واغتصاب فتيات سجينات عثر على جثثهن بعد سنوات مرمية في مغارة عميقة، وقد تعمّد الجيش الصربي وميليشياته طمرها حتى لا يُقدّموا إلى القضاء بعد انتهاء الحرب.

شكّلت شهادة المحامية مع الأخريات علامة على قوة البوسنيات ورغبتهن في كشف الحقيقة، على عكس بعض السياسيين والعسكريين الذين يريدون ترك الأمر ثانويا، والتركيز على جوانب أهم بالنسبة إليهم.

انتقام في قرى الصرب.. جرائم اغتصاب في الجهة الأخرى

تُرافق المخرجتان امرأة بوسنية لا تعرف القراءة والكتابة تعرضت للاغتصاب بشكل شنيع، وتريد المُضيّ في شهادتها حتى النهاية، رغم صعوبة الظروف الاقتصادية التي تعيش فيها.

إنها حالة مصغرة تبيّن قلة اهتمام الدولة بالنساء المنسيّات ورغبة كبار السياسيين والعسكريين في طيّ صفحاتهن، ليس تعميقا لفكرة التسامح، بل خوفا من العار والخزي المصاحب لإثارة القضية، وكذلك خوفهم من كشف جرائم بعضهم أثناء الحرب، فالانتقام كان سيد الموقف.

آلاف النساء البوسنيات المسلمات تعرضن للاغتصاب من قبل الجيش الصربي

ويقدم الفيلم وثيقة مصورة كيف تسربت أخبار للجنود الكروات والبوسنيين في إحدى الجبهات عن عمليات اغتصاب حدثت في قراهم البعيدة، فما كان منهم إلا الانتقام والذهاب إلى قرى صربية واغتصاب نسائها.

الهمجية هي نتاج موضوعي للحرب، ولهذا قدمت المخرجتان كثيرا من البراهين على قوة الفعل وردود الفعل حوله، إلى ملاحقة القضايا القانونية التي تطالب بها النساء المغتصبات، لأن الحديث عن الحرب وويلاتها لا ينتهي، ويشمل الجميع في الحالة اليوغسلافية، أما المُغتصبات فأمامهن هدف واحد؛ وهو معاقبة الجناة.

فظائع الحرب.. أرقام مرعبة تلاحق نساء العالم

يلاحق الوثائقي مداولات ومحاكمات لاهاي، ويُصدم بحقيقة أن عدد المدانين من قادة الصرب قليل جدا، بالمقارنة مع نسبة الجرائم التي قُدرّت بين 25-40 ألف حالة اغتصاب، ومع هذا كانت الأولوية تُعطى لفظاعات الحرب الأخرى.

وفي مشاهد مؤلمة يسجلها الوثائقي نرى صدمة النساء المُنتَهكات بالأحكام التي تخص أفعال الجناة، مما يولد عندهن شعورا مضاعفا بقلة الضمير وعدم المبالاة تجاه ما تعرضن له.

يعتبر الاغتصاب جريمة حرب وجريمة قانونية كذلك، وهي منتشرة في كثير من البلدان بنسب مختلفة

ولهذا ورفضا للواقع الذي تجتمع عوامل سياسية ودولية كبيرة على ضرورة تغييره، فقد أقبلن على المشاركة في الوثائقي الشجاع بروح منفتحة وحماسة فائضة، عزّزت من قيمته ومن طموحه في أن يقدم موضوعا شائكا بدأ في البوسنة، لكنه عرج على مثيلاتها في العالم، دون ادعاء -طبعا- بقدرته على رصدها كلها.

فالأرقام التي قدّمها في النهاية تبين حاجتنا لأكثر من وثائقي يغطيها؛ ففي ليبريا اغتُصب أكثر من 40 ألف امرأة، وفي سيراليون 60 ألفا، وفي رواندا وحدها انتُهكت أعراض نساء بلغ عددهن ما بين ربع إلى نصف مليون امرأة، وفي الكونغو قرابة ربع مليون مُغتصبة.

أرقام مسجلة بوضوح لكن ما تخفيه من عذابات بشرية يحتاج إلى صحوة ضمير، كما فعل الوثائقي “الاغتصاب كسلاح في الحرب”، إذ أنه بحدود قدرته الوثائقية أراد عرض مآسي الحروب، من أجل عدم تكرارها ثانية.


إعلان