“ماكوندو”: البحث عن الأب..والبحث عن البطل !
أمير العمري

من أفضل ما عُرض هذا العام، الفيلم النمساوي “ماكوندو”، وهو العمل الروائي الطويل الأول للمخرجة سودابه مرتضى الإيرانية الأصل. وكانت سودابه قد هاجرت مع أسرتها من إيران عام 1980 أي في العام التالي لوصول الخميني إلى السلطة وبدء القمع على نطاق واسع ضد القوى الليبرالية واليسارية، وكان عمرها في ذلك الوقت 12 عاما، ثم درست السينما وأخرجت بعض الأفلام القصيرة قبل أن تُخرج “ماكوندو”.
اسم الفيلم هو الاسم الذي أطلقه مجموعة من مهاجري أمريكا اللاتينية على حيّ،أو بالأحرى، مستوطنة كانت في الأصل معسكرا للجيش من زمن الإمبراطورية، يقع في إحدى ضواحي العاصمة النمساوية فيينا، يقطنه المهاجرون واللاجئون ومعظمهم حاليا من الشيشان والصومال وأفغانستان، في شقق ضيقة ومتلاصقة. وقد صورت المخرجة الفيلم في الموقع الطبيعي ولم تلجأ لتشييد ديكورات.
الفيلم يدور حول فكرة نمو وعي صبي في الحادية عشرة من عمره، وانتقاله من الطفولة إلى الرجولة، أو بالأحرى، كيف يفقد صبي شيشاني طفولته مبكرا ويقتبس دورا أكبر منه، لكي يصمد وهو المهاجر مع أمه وشقيقتيه الطفلتين من جحيم الحرب في الشيشان إلى الحياة في مجتمع غريب في النمسا، إن دوره الجديد الذي يحب أن يلعبه هو دور “رجل البيت”، أي المسؤول عن الأسرة في حين أنه لا يملك بعد أن يكون مسؤولا عن نفسه كما يقول له إمام المسجد عندما يلجأ إليه طلبا للنصح، في أحد أفضل مشاهد فيلمنا هذا.

إننا هنا أمام عمل سينمائي لا ينتمي للسينما المركبة التي تمتلئ بالشخصيات والأحداث، بل ربما ينتمي أكثر إلى تلك السينما التي يصنعها الأخوان البلجيكيان داردان وتُبهر الجمهور في الغرب ببساطتها في السرد، وتركيزها حول شخصية واحدة في الغالب، أي أنه فيلم للتأمل في حالة إنسانية، بمعزل عن تصوير العواطف الجامحة أو التوقف لرصد مشاعر الشخصيات وتفجير مفاجآت درامية عالية النبرة، بل تبتعد المخرجة/ المؤلفة تماما عن الشرح والتبرير وتصوير المآسي التي مرّ بها بطلنا الصغير وأمه التي أصبحت الآن منكفئة على نفسها، تجترّ تجربة الماضي القريب الصعبة المعقدة وتجد شبابها يذوى ويتلاشى تدريجيا، تحاول بصعوبة أن تتأقلم مع العيش في مجتمع جديد غريب عليها لا تُجيد لغته بعد، وأن تواءم بين العمل ورعاية أطفالها، في حين أن طلبها للجوء لايزال منظورا أمام السلطات، وهي وأسرتها قد أصبحتا تحت الرقابة المُشدَّدة.
الطفل ويدعى “راماسان” (11 سنة) متعلق كثيرا بصورة والده الذي فُقد في الحرب وأغلب الظن أنه قُتل أثناء القتال ضد القوات الروسية، وهو يعتقد أن أباه كان بطلا من أبطال تلك الحرب الدامية، تسيطر عليه صورة البطل، لا يريد للواقع الصعب أن ينتزعها منه. لكن ذات يوم يأتي للعيش في “ماكوندو” بالقرب من مسكن راماسان وأسرته الصغيرة، رجل يدعى “عيسى” كان رفيقا لوالده في الحرب. وهو يحمل صوره لزوجته وولده، لكن عيسي يبدو أيضا أقرب إلى الصمت، لا يرغب في الحديث عما وقع في الحرب في الشيشان، ولا عن والد راماسان ودوره في تلك الحرب ومصيره بينما يلحّ عليه راماسان كثيرا، بل إنه يضطر في نهاية الأمر إلى تذكير راماسان بأن ما مضى قد مضى وأن والده لم يكن بطلا كما يظن وأنه يتعين عليه أن يتخلص من العيش في الأوهام.
الحوار في الفيلم مقتصد للغاية، والمخرجة ترصد وتتأمل وتتابع نمو شخصية الصبي الذي يجد نفسه مضطرا لمساعدة والدته في حين أنه أيضا يرغب في مقارعة أقرانه وأن يثبت لهم أنه لا يقل عنهم شجاعة، الأمر الذي يوقعه في الكثير من المشاكل حتى أنه يُتهّم بالسرقة رغم أنه لم يكن يقصد سوى استعراض مهاراته. ثم يتعرّض لضغوط من جانب السلطات التي تنظر طلب الأسرة اللجوء، ويمكن لأي مخالفة أن تؤدي إلى رفض الطلب خاصة، وأن السلطات تطالب الأم بإثبات وفاة زوجها في حين أن الأم (أمينة) لا تملك دليلا على ذلك، فمصير الأب أو الزوج الغائب غير معروف.

أما علاقة راماسان بعيسى فتصبح علاقة حب وكراهية، فمن ناحية يجد الصبي في عيسى نموذجا قويا للأب البديل، لكنه في الوقت نفسه لا يريد له أن يقترب من أمه، بينما يبدو في الأفق نوع من الإعجاب المتبادل بين عيسى وأمينة، تتضح بوجه خاص في مشهد الحفل الذي يقيمه المهاجرون الشيشانيون وترقص فيه الأم مع عيسى. ومنذ تلك اللحظة يتحول سلوك راماسان إلى العنف تجاه عيسى بل إنه يورطُّه أيضا ورطة كبيرة تكاد تتسبب في خلق مشكلة له مع السلطات. لكن في نهاية الأمر، لابد أن يستسلم راماسان لحقائق الحياة، ويدرك أنه في حاجة إلى صديق كبير ربما لا يستطيع أن يعوِّض غياب الأب تماما، لكن على الأقل، يمكنه أن يمنحه سندا وقوة وينقل له خبرته في الحياة.
فيلم “ماكوندو” نموذج جيد للمزج بين الأسلوب التسجيلي والدرامي، وبين الأداء التلقائي والإخراج المبني على الدراسة العميقة للشخصيات والمكان، بل إن المخرجة أقامت لفترة طويلة مع أفراد طاقمها في الموقع ودرست سكان الحي وقامت بتدريب الكثيرين منهم على التمثيل، كما أجرت الكثير من الاختبارات أمام الكاميرا لعشرات الأطفال، الى أن وقع اختيارها على من يقوم بدور راماسان، في قوة شخصيته وضعفه الكامن الذي يخفيه في الوقت نفسه، وفي تمردّه وعنفوانه وغضبه وشعوره بالغربة في الوقت الذي يميل فيه أيضا إلى “الاندماج”.

وعندما يواجه راماسان ممثلي الإدارة البيروقراطية النمساوية من موظفي الهجرة، يبدو مثل رجل مسؤول، يترجم الأسئلة لوالدته التي لا تجيد الحديث بالألمانية، ويبدو أيضا متفهما لمقتضيات الموقف، في حين أن عنفه تجاه “عيسى” يصل إلى درجة التآمر والكذب على رجال الشرطة لكي يدفعه دفعا للابتعاد عن والدته بحكم غيرته الفطرية وتمسكّه العنيد بصورة الأب الغائب.
هذه العلاقة الخاصة بين الطفل والرجل، وبين الطفل والأم، وبينه وبين أقرانه، هي التي تدفع بالحيوية في فيلمنا هذا، وتدفع أيضا الشخصية إلى النمو والتطور وخاصة أن المخرجة تسيطر سيطرة مدهشة على أداء مجموعة الممثلين جميعا، كما تعرف أين تتوقف وتنتقل من مشهد إلى آخر، ومن لقطة قريبة لوجه من الوجوه إلى منظر عام من بعيد، وكيف وأين تستخدم الموسيقى أو توقفها أو تحرك الكاميرا بحرص في إطار المكان.
“ماكوندو” دون شك عمل رصين يكشف عن موهبة مخرجته “سودابه مرتضي” التي سيكون لها شأن في أفلامها القادمة.