“إخوة في الحرب”.. العودة إلى فيتنام
أمير العمري

كانت الأفلام الأمريكية التي ظهرت بعد انتهاء الحرب في فيتنام في السبعينيات تُركّز أساسا على فكرة عبثية الحرب، كيف كانت حربا ظالمة، عرّضت “الروح الأمريكية” نفسها لنوع من التآكل، وسبّبت جراحا دامية في قلوب الجنود الذين شاركوا فيها، تماما كما سبّبت دمارا هائلا للفيتناميين أنفسهم. ويجب أن نتذكّر هنا بوجه خاص الفيلم المؤثر البديع “العودة إلى الوطن” Coming Home الذي عُرض عام 1978 وهو من إخراج هال آشبي وبطولة جين فوندا وجون فويت وبروس ديرن، وكانت له أصداء واسعة داخل الولايات المتحدة.
لم تكن قد ظهرت بعد أفلام كثيرة تُبرّر المغامرة الأمريكية في فيتنام أو تُمجدّها، على غرار أفلام الحرب العالمية الثانية مثلا، بل كانت الأفلام التي اكتسبت قيمة فنية وجمالية وأيضا، حققت نجاحا شعبيا، هي تلك الأفلام الناقدة للحرب الأمريكية في فيتنام، التي تدين وتُعرّي وتكشف وتتوقف أمام ما حدث بنظرة نقدية قد تصل أحيانا إلى قمة القسوة – كما في فيلم “الفصيلة” Platoon مثلا الذي عُرض عام 1986 من إخراج أوليفر ستون، أو إلى أعلى مراتب التعبير الشعري الجمالي عن الحرب كما في فيلم “سفر الرؤية الآن” Apocalypse Now لفرنسيس فورد كوبولا.
أما أفلام الدعاية الفجّة المباشرة التي تُبرّر حتى المذابح فلم تكن تحظى سواء بالتجاهل والازدراء بل لعل فيلما واحدا شهير هو فيلم “القبعات الخضراء” Green Berets الذي قام ببطولته جون واين وأخرجه بالتشارك مع اثنين من المخرجين، انتهى أمره إلى فضيحة مدويّة عندما اتضح دور البنتاجون أي وزارة الدفاع الأمريكية في تمويله. وأصبح فيلما سيء السمعة لأنه كان يسعى إلى تجميل المذبحة الوحشية التي ارتبكها جنود فرقة القبعات الخضراء وعُرفت بمذبحة ماي لاي التي قُتل فيها عام 1968 نحو 500 من المدنيين في قرية بفيتنام الجنوبية، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، ووقع اغتصاب عدد من النساء أيضا. وكان الأمريكيون يعتقدون أن القرية معقلا من معاقل قوات “الفيت كونج”!

اليوم وبعد مرور أكثرمن 40 عاما على نهاية العمليات العسكرية الأمريكية في فيتنام يأتي الفيلم الوثائقي “إخوة في الحرب” Brothers in War لكي يفتح ملف فيتنام من وجهة نظر تعيد التقدير والاحترام إلى أولئك المقاتلين الذين شاركوا في القوات الأمريكية في أكثر مناطق تلك الحرب عنفا وضراوة، أي دلتا نهر الميكونج الشهيرة في فيتنام.
الفيلم مقتبس من كتاب أصدره أندرو ويست بعنوان “أولاد 67: سرية تشارلي في حرب فتينام”. ويتابع الفيلم مراحل التدريب التي مرّ بها أفراد هذه السريّة التي كانت الأخيرة التي يتم إرسالها إلى فيتنام عام 1967 للتمركُز في دلتا نهر ميكونج لحماية الممرات المائية الهائلة المتفرعة منها، والتي تُعدّ المصدر الرئيسي للمياه اللازمة لريّ مزارع الأرز في فيتنام الجنوبية.
كانت الولايات المتحدة قد تورطّت تدريجيا في الحرب هناك ضد قوات الفيت كونج الشيوعية المناوئة لحكومة سايجون، والتي تتلقّى دعما عسكريا من حكومة فيتنام الشمالية (في هانوي). وتدريجيا توسعّت الحرب وشملت أعدادا كبيرة من العسكريين الأمريكيين، ومع نهاية الحرب عام 1973 كان أكثر من 58 ألف جندي أمريكي قد فقدوا أرواحهم في القتال. وقُتل ما يُقدّر بأكثر من مليوني فيتنامي من المدنيين والعسكريين. وكانت حرب فيتنام حربا جرّبت فيها أمريكا أنواعا جديدة مختلفة من الأسلحة، منها، على سبيل المثال، القنابل الحارقة المعروفة بـ “النابالم”، التي كانت تُستخدم بوجه خاص في تصفية أعداد كبيرة من مقاتلي الفيت كونج الذين كانوا يختبئون في الغابات، وكانت تلك القنابل تحرق مساحات واسعة من الغابات.
الجديد في هذا الفيلم الوثائقي وهو من إنتاج 2014، أنه يُعيد رواية الأحداث الدرامية التي خاضها أفراد سريّة تشارلي هناك، باستخدام الكثير من مواد الأرشيف والمواد المصورة التي كانت تبثها محطات التليفزيون، بعد استعادة وترميم هذه المواد وجعلها تبدو على صورتها الأصلية وبألوانها التي صُورت في زمن كانت لايزال التصوير السينمائي في معظمه، بالأبيض والأسود. من هذه اللقطات التي التُقطت في أرض المعارك من جانب مصورين كانوا يتابعون يوما بيوم، تحركات القوات الأمريكية هناك، ومن بينها بالطبع سرية تشارلي، من مرحلة التدريب، إلى مرحلة الاشتباك المباشر مع العدو في معارك قاسية فقدت خلالها السرية التي كانت مكونة من 160 فردا، 26 قتيلا، و105 جريحا، ونجا من أفرادها وعاد إلى الوطن بعد نهاية فترة العام من الخدمة في فيتنام، 29 فردا هم الشهود الذين يظهرون الآن في الفيلم، يتذكرون ويروون عن خبرتهم في فيتنام، ويشرحون كيف كان يتعين عليهم وهم بعد شبابا حديثي السن، أن يواجهوا عدوا أكثر خبرة ومعرفة منهم بطبيعة المنطقة التي يواجهونه فيها، وكيف توطدّت فيما بينهم أواصر الصداقة والرفقة، وساندوا بعضهم البعض في تلك الأوقات الصعبة.

يتحدث كثيرون منهم عن الخوف الذي كان يعتريهم، عن مشاعر القلق والرعب في الليل، عن كيف كانوا شهودا على مقتل زملاء لهم أمام عيونهم، وكيف كانوا ينتشلون الجثث إلى حين تأتي طائرات الهليكوبتر لتحملهم، ويتحدث آخرون عن تفجير طائرة هليكوبتر كانت تحمل بعض الجرحى، بعد تحليقها مباشرة فوق سطح الأرض، ويروي أحدهم كيف لجأ إلى الاستلقاء على بطنه لكي يساعد جنديا جريحا لا يمكنه الوقوف على ساقيه، في أن يزحف ليتمدّد فوق ظهره ثم تدريجيا ينهض لكي يحمله ويعود به إلى القاعدة.
في عملية مواجهة قتالية مباشرة مع قوات الفيت كونج ينجح أفراد السرية في قتل 250 فيتناميا في حين تفقد “سرية تشارلي” 11 فردا. ويتذكر عدد من أفراد السرية بنوع من الأسى والحسرة، كيف أن الصحافة الأمريكية (نرى في الواقع العنوان الرئيسي في إحدى هذه الصحف على الشاشة) اهتمت كثيرا بالتركيز على مصرع 11 جنديا أمريكيا في المعركة في إطار النقد السياسي الموجه للإدارة العسكرية في واشنطن في ذلك الوقت، وأغفلت أن السرية قتلت 250 من أفراد العدو. كما يروي كثير من الجنود السابقين في السرية كيف أنهم فوجئوا بالمظاهرات المناهضة لحرب فيتنام وبالاستقبال المهين الذي لاقوه عند عودتهم إلى الوطن عام 1968. وكانت أمريكا قد شهدت في تلك الفترة تحديدا اتساعا هائلا لحركة الشباب المناهض للحرب في فيتنام وكان من أبرز أعلامها وقتذاك، الملاكم الأمريكي الأسود الذي اعتنق الإسلام محمد علي كلاي، الذي رفض الاستجابة للخدمة الإجبارية في الجيش الأمريكي والذهاب إلى فيتنام.
يعتمد الفيلم أيضا على الكثير من الأفلام المنزلية التي صورّها أبطاله، أي أفراد السريّة العائدين، والتي تُصوِّر استقبال أسرهم لهم وما أقامته بهم من احتفالات، ويتابع أيضا حياتهم في الوطن فيما بعد، بل وتصطحب المخرجة ليز ريف Liz Reph أحدهم ليعود إلى نفس الأماكن التي كانت تزخر بالمظاهرات المناهضة للحرب، قرب البيت الأبيض في واشنطن، كما تصحبه إلى بيت العائلة القديم ليسترجع ذكرياته هناك.
يتميز الفيلم الذي أنتج لحساب التليفزيون، بإيقاع سريع، ومونتاج جيد يحقق التوازن بين المواد المصورة وبين المقابلات وأيضا التسجيلات الصوتية للرسائل الشخصية التي كان يبعث بها جنود السرية إلى عائلاتهم. غير أن الفيلم يفتقد على نحو واضح، التوازن بين الجانبين الأمريكي والفيتنامي، فليس هناك أدنى اهتمام بما يقع على الجانب الآخر، بل ولا يهتم الفيلم بشهادات السكان من فيتنام الجنوبية (سايجون) الذين كان بعضهم يتعاون مع الأمريكيين، بل يظهرهم الفيلم من بعيد كديكورعام، ولا يطرح الفيلم أيضا السبب الذي دفع إلى إرسال هؤلاء الجنود إلى فيتنام، وماذا كان هدف أمريكا من تلك الحرب، وهل حققت الهدف منها أم أن المغامرة كانت فاشلة، وما هي طبيعة التساؤلات التي كانت تدور داخل عقول هؤلاء الجنود خلال تلك السنة التي قضوها بعيدا عن وطنهم، وكُتب عليهم أن يخوضوا حربا في أرض غريبة لأسباب لم تكن كما هو واضح، تبدو مقنعة أمام الشعب الأمريكي في ذلك الوقت.
ويبدو الفيلم بالتالي احتفالا بالشجاعة والجرأة والتضحية التي قدمّها أفراد “سريّة تشارلي” ومحاولة لرد الاعتبار إلى الجنود الأمريكيين الذين يرى صناع الفيلم أن الظروف خذلتهم، كما خذلهم الواقع نفسه بعد عودتهم، وأنهم قدّموا خدمة جليلة لوطنهم، أكثر منه تحليلا للمأزق الأمريكي في فيتنام من خلال الاقتراب من أولئك الجنود واستعادة ذكرياتهم عن فترة انتهاك البراءة ومواجهة تلك الحرب العبثية التي كان يتعيّن عليهم خوضها في ذلك السن المبكر.
التعليق الصوتي على بعض أجزاء الفيلم بصوت الممثل الأمريكي الشهير تشارلي شين الذي قام بدور “تشارلي” في فيلم “الفصيلة” لأوليفر ستون عام 1986، ولكن شتان ما بين الفيلمين، وقد يكون التباين الكبير بين دور تشارلي شين في “الفصيلة” وبين ما يقوم به هنا، سببا في الهجوم الذي شنّه البعض على فيلم “إخوة في الحرب”، استنكارا للاستعانة ولو بصوت الممثل نفسه الذي سبق أن قدّم صورة “سلبية”- كما يقولون- للجندي الأمريكي في فيتنام!