أبرع مزوّر أعمال فنية: فنان أم مُحتال؟

قيس قاسم

منذ انكشاف أمره وشخصية مارك لانديس محط اهتمام  وجدل، على المستويين الأكاديمي والإعلامي، لما فيها من غموض والتباس. فالرجل يُعدّ، في وقتنا الحالي، من أكثر مزورِّي الأعمال الفنية في الولايات المتحدة الأمريكية شهرة وربما في العالم كله، لكن الغريب في أمره، أنه لم يستغل تزويره وخداعه لأكبر المتاحف وأكثر المعارض الفنية رزانة لغرض الحصول على المال بل ظلّ مخلصاً لموهبته وحبه لتقليد نتاجات كبار الفنانين والتشكيليين في العالم (من رسامي القرن الخامس عشر مروراً بمشاهير القرن العشرين مثل بيكاسو وغيره ووصولاً إلى تخطيطات والت ديزني الكرتونية).

 
هذه الخصلة أربكت “ضحاياه” ورجال القانون واحتاروا في توصيفه: هل هو مجرم أم فنان؟ والأعمال التي يستنسخها إلى درجة يصعب على خبراء اللوحات التشكيلية معرفة ما إذا كانت أصلية أم مزورة، هل هي فن خالص أم حرفة مثل بقية الحرف التي نعرفها وفيها لمسات فنية لا ترتقي إلى مستوى الإبداع؟ هذا السؤال دفع المخرجين الأمريكيين سام كلمن، وجَنيفر غراوسمان لإنجاز وثائقي ، يرسمان من خلاله “بورتريه” لذلك الرجل الذي حيَّر المشتغلين في الفن التشكيلي وأثار فضول الجمهور العام لدرجة أن فكرة توثيق حياته سينمائياً لم تعد موضع نقاش، لأنه صار من المؤكد ومنذ أن كشف أمين ضبط المستلزمات القانونية للمعارض التشكيلية ماثيو لنينيغر تحايلات لانديس، أن فيلماً ما سينجز ولكن السؤال المتبقي كان؛ على يد مَن ومتى؟ والأكثر أهمية على المستوى النقدي كيف سيظهر وكيف ستُعالج خاماته الوثائقية؟

لا يتأخر “فن وحرفة” من إظهار الجانب النفسي العليل عند لانديس لأن  المخرج سام كلمن ومساعدته جَنيفر غراوسمان أرادا إحاطة المشاهد بالمُركّب النفسي منذ البداية لأهمية هذا التفصيل في تقديم شخصية المزوِّر الأشهر، ولكي يحددا أيضاً، أي الجوانب من معالجتهما للموضوع يريدان إبرازه وأي الشخصيات ينبغي التركيز عليها لإتمام الحكبة الدرامية للفيلم، الذي عُرض في الدورة الأخيرة لمهرجان أبو ظبي السينمائي.
 قبل كل شيء سيضعا مارك لانديس وماثيو لنينيغر في كفتي الميزان، كغريمين يمثلان “الضحية والجاني” في ميزان العدالة المجردة أو بمفهومها السائد إذا أردنا الدقة أكثر. شخصيتان كلٍ منهما تنظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، واختلافاتهما تأتي من المكان الذي يقفان فوقه وينظران إلى العالم من خلاله.
فأمين ضبط المستلزمات القانونية اعتبر نفسه مخدوعاً وأن لانديس مزور محترف ينبغي إيقافه وتقديمه للعدالة، فيما يعتبر لانديس نفسه إنساناً عادياً يقوم بممارسة هوايته من دون أن يضرّ أحداً ما دام لم يأخذ مقابل فعلته مالاً بل يعتبر نفسه “فاعلاً للخير ومحسناً” ولهذا السبب تنكر وتقمّص شخصيات مختلفة (قسّ، قيِّم على جنازات وكفاعل خير) من أجل أن يوصل أعماله إلى الناس طيلة ثلاثين عاماً مجاناً!.

 بغيرهما، يلتقي ويسجل الوثائقي أصحاب معارض فنية ورجال قانون وإعلام ليُقدّم صورة متكاملة للمشكلة التي تثيرها أعمال لانديس، فيما سيتركا المساحة الأكبر للرجل الهاديء ذي الصوت الهامس ليحكي عن حياته وتجاربه وهوايته التي كرّس كل حياته لها.
 وخلال مسار الفيلم، الشديد الصلة بالفن التشكيلي، سنتعرف على كم كبير من الرسامين العالميين وعلى عوالمهم وطريقة شغلهم والكيفية التي لوّنوا بها لوحاتهم، وعلى المفاهيم الفنية والمصطلحات التشكيلية التي ستتوقف تكراراً عند كلمتي: فن وحرفة، وما هي الفوارق الأكاديمية بينها إلى درجة سيكون الشريط درساً مدهشاً وغنياً في الفن وبدرجة كبيرة بتاريخه والتعامل معه كمنجز إبداعي، في حالة لانديس، وكمصدر للربح بالنسبة لأصحاب المعارض والمتاحف إلى جانب الأهمية الروحية التي تتجلّى من خلال قوة الفن وقيمه الإنسانية.
 بانوراما فنية وإنسانية تتمظهر عبر متابعة مسار حياة رجل، عاش حياة مضطربة لكنها غنية فيها من الأحزان ما يكفي.

لا تبدو أحاديثه متراصّة ومتكاملة لسبب يعود إلى طريقته في التعبير عن أفكاره التي يجيدها رسماً لا شفاهاً، ومع هذا كانت كافية بالنسبة لصانعي الوثائقي للبناء عليها بصرياً مستخدمين كل ما يمكن من وسائل تقنية لتوضيحها باعتبارها مصدراً غنياً من مصادر التعرُّف عليه.
يحكي لانديس بحب عن والديه، وبشكل خاص عن أبيه الذي فقده مبكراً وأثرّ موته فيه كثيراً وربما وحسب الأطباء النفسانيين هو الذي سبّب خلل في توازنه النفسي ودفعهم إلى إدخاله مصحّاً قرّر بنفسه تركه، بعد أن مكث فيه عام كامل، تأكّد له بالتجربة من لا جدواه لصحتّه ولمسار حياته التي انطلق بعدها إلى الرسم الذي أحبّه بسبب والديه المثقفين أيضاً.
لقد كانا يكثران من السفر خارج الولايات المتحدة الأمريكية ويزوران برفقته المتاحف العالمية في باريس وغيرها من عواصم الفن وخلال الليل كانا يخرجان فيما يبقى هو وحده في غرفة الفندق يخطط ما سبق وأن شاهده من أعمال فنية في المتاحف. ستلعب زيارة المتاحف ومشاهدة التلفزيون والسينما دوراً في بلورة مسار عشقه للفن وارتكانه على الخيال.

من الأشياء اللافتة أن حججه للدفاع عن نفسه تستند في الكثير منها على مقاطع وحوارات من أفلام سينمائية شاهدها، وقوة تمكنه الفنية وبخاصة التخطيطات الكرتونية من وحي أفلام التحريك والأطفال. واحد من منشطات خياله كان التلفزيون، وقتما كان طفلاً (اليوم هو في السبعينات من عمره) لم يكن البث واضحاً وكثيراً ما كان ينقطع ولهذا كان يكمل بنفسه الصورة الناقصة لمسلسل أو برنامج ما كان يتابعه.

 

المخرجان “سام كلمن”و”جَنيفر غراوسمان”

لقد غذّت الانقطاعات الخيال عنده ومع هذا كان يميل إلى تقليد ما يراه لا أن يبدع أفكاراً بنفسه سوى ما يتعلق بعائلته وتاريخها، حيث كان يضيف من عنده، وهو الوحيد، أختاً له وقريباً!. غرابة شخصيته ستُحيّر الأطباء فهو من جهة جد متوازن ذهنياً وسلوكياً ولكنه شديد الاضطراب على المستوى العاطفي، وعدم حبه للمال قد يُفسَّر من هذه الزاوية وهي صفة نادرة أنقذته من دخول السجن الذي تمنّاه له غريمه ماثيو لنينيغر والذي يُخصّص الوثائقي له قسطاً جيداً باعتباره يمثل الرأي العام والجانب الإقتصادي من المعادلة التي شكّلها لانديس لنفسه والتي في جوهرها تُعبّر عن التناقض الصارخ بين العاشق للفن بذاته وبين من يستثمره لجني الأرباح وهذا ما قاله عنه أحد أصحاب المعارض التي قدّمت أعمالاً عالمية أهداها لها لانديس مجاناً باعتبارها نسخاً أصلية، كما انطلت عليهم “لقد لعب لانديس على نقاط ضعفنا: المال”.

 لم يطلب طيلة ثلاثين عاماً قرشاً واحداً مقابل الأعمال التي كان يُرسلها إلى المتاحف والمعارض وكل ما كان يرتجيه منها هو أن يشاهدها مُعلقّة على جدران أكبر المتاحف في الولايات المتحدة الأمريكية إلى جوار أعمال كبار الفنانين العالميين.
تغمر القصص التي يُقدّمها “فن وحرفة” مشاهدها بفيض عاطفي وانغماس وجداني مع الكائن المتوحّد مع فنه، لدرجة يصبح التعاطف معه بغيضاً، لأنه لا ينشده أصلاً، بقدر ما كان يريد من الآخرين مشاركته حياته وفهمها كما هي، وهذا ما توصّل إليه الوثائقي بشكل رائع. لقد عرف صانعاه ما المطلوب منهما إظهاره في الصورة التي تطوعّا لرسمها لرجل مستسلم لقدره ولا يريد الانزياح عنه. كائن معقد التكوين موهوب يخاف ولا يحب الخديعة في حين كل عمله من زوايا أخرى يمثل الخديعة نفسها.
 لقد تركاه على سجيته يتحرك ويرسم ويتحدث وحين جاءت اللحظة المناسبة يوم وافق على إقامة معرض لأعماله “المستنسخة” وبحضور غريمه الذي لا يعرفة شخصياً “ماثيو لنينيغر” اسثمراها بطريقة مدهشة. لقد جعلا من اللقاء نقطة للتفاهم الإنساني ومفترق طرق للمصالح.

 قَبل لانديس المشاركة لأنه أراد أن يفهم الناس طريقة شغله وليعرف العالم أنه فنان على طريقته الخاصة في حين تضمّن  حضور الغريم انتقاماً وتشفيّاً لأنه في الحقيقة كان الرجل الوحيد الذي أنذر نفسه لكشف لانديس وملاحقته. أراده تتويجاً لنصر شخصي في حين أراده الرسام تقديماً لمُنجَز عمري طويل كرّس كل وقته وتفكيره من أجله. لقد أحب الرسام الفن فيما أحب الرجل القانوني وظيفته، وعلى الطرف الثاني من القاعة كان الجمهور حَكماً على صراع هاديء انحاز البعض إلى الجاني والبعض الآخر إلى الضحية فيما اللوحات ظلّت معلقة تحكي قصتها وقيمتها تأتي من النية الصادقة لصاحبها الذي رسمها حباً بها لا طمعاً بقيمتها المادية.
 بعد اللقاء برز السؤال: هل سيترك لانديس الرسم أو الاستنساخ الاحتيالي ويمكث في بيته، مثل غيره من كبار السن، أم أنه سيستمر؟ الجواب لا يأتينا مباشرة لكن نظرات وحركات لانديس تقول لنا أنه سيستمر وسيستمر معه جدل طويل حول الفوارق، بكل أشكالها، بين “الفن والحرفة”.


إعلان