ألعاب بوتين الأولمبية

 أمستردام – محمد موسى

 

اختارت قنوات تلفزيونية حكومية هولندية أن تعرض، وبموازاة تغطياتها الرياضية لكل ما يجري في مدينة سوتشي الروسية حيث تجري حالياً دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، مجموعة من الأعمال التسجيلية التي يمكن أن تندرج تحت عنوان واسع هو: روسيا اليوم. وكأن هذه القنوات باختيارها هذا التوقيت بالتحديد، لم تشأ أن تمر المناسبة الاحتفالية العالمية، دون أن توجه الانتباه للحياة في روسيا، والتي سجل يوميات منها وكشف عن تحدياتها ومعضلاتها وأمراضها مخرجي سينما تسجيلية من كل الجنسيات، وعبر أفلام قُدمت على طوال أسبوع كامل، منهم المخرج الهولندي هانس باول، الذي قضى فترة زمنية في “سوتشي” عندما كانت تبني منشآتها وتستعد لاستقبال فرق العالم الرياضية، ليقدم فيلماً عن المدينة والناس والسلطات، حمل عنوان “ألعاب بوتين الأولمبية”. الفيلم الذي انطلق من تلك الإستعدادات، سيمِّر على الفساد الذي يَنخَّر الدولة الروسية، والضحايا الروس الكُثر الذي تدوسهم عجلات الانفتاح الإقتصادي هناك، لتبدو روسيا التي يُقدمها الفيلم الهولندي، تتأرجح بين نظام حياتها القديم الباليَ، وآخر رأسمالي جشِّع تخلى عن مُثله الأخلاقية السابقة ويحتفل بالمال كقيمة وحيدة.

“سوتشي” التي تظهر في فيلم المخرج الهولندي، تختلف كثيراً عن المدينة التي زينتها الأفلام الترويجية الروسية الرسمية كمدينة المُستقبل الروسي. فمدينة الفيلم التسجيلي كانت تصحو على وقع خطوات الآلف العمال الغير الشرعيين، والآتيين من كل الأطراف الفقيرة لروسيا ومن حولها. وهم يقطعون التلال، بحثاً عن فرص عمل في شركات. الفيلم يأخذ قصة هؤلاء كأحد محاوره المهمة. فروسيا التي كانت في زمنها الشيوعي تطلق على نفسها دولة العمال، هي الآن تدير وجهها لتترك عمالها تحت رحمة شركات عملاقة لا يهمها سوى الربح. الفيلم يرافق شاب روسي من منظمة إنسانية، في محاولاته اليومية لتعريف عمال غير شرعيين بحقوقهم. مع قضية العمال غير الشرعيين، سيتناول الفيلم موضوعة الفساد داخل الشركات التي قامت ببناء المدينة الرياضية، والتي يوليها الفيلم أهمية. هذه الشركات دفعت ملايين من الأموال كرشاوي للحصول على أموال اضافية من الدولة الروسية. كما إن الفيلم يوحي ان الشركات ذاتها، هي التي تُحيل إنتباه الدولة عن الممارسات التي تقوم بها، ومنها سجلها مع العمال غير الشرعيين، والذين تفضل إستخدامهم، حتى لا تدفع  ضرائب او ملزمة بتأمين صحي لهم، والذي ينص عليهما القانون الروسي.

تتنوع قصص الفيلم التسجيلي، ويترواح الوقت المخصص لتلك القصص، فأحيانا يُركز المُخرج على الموضوعات الكبيرة، في حين ينشغل أحياناً اخرى بتسجيل لحظات إنسانية مؤثرة، فيرافق مثلاً مُسِّن روسي في طريقه لزيارة قبر والديه في المقبرة القديمة، التي تقع الآن في قلب المدينة الرياضية المحصن بالحراسات المُشددة. هذا الرجل  يحتاج لاذونات في كل مرة يرغب بدخول مقبرة عائلته. كما يفرد الفيلم مساحة لشاب روسي من مدينة سوتشي نفسها، كان يستعد للمشاركة في الإولمبياد الذي جاء الى مدينته. هذا الشاب مازال يتدرب في صالة رياضية تعود الى عصر الأتحاد السوفيتي. والتي يصف مدرب الشاب أجهزتها الرياضية القديمة بحنين، بأنها أفضل من التي تُصنع اليوم في روسيا. بدا الشاب ذاك وكأنه يرمز للانتقالة السهلة لروسيين بين ماضي روسيا وحاضرها.

يجتهد الفيلم كثيراً بأن يترك بصمة فنيّة ما على مشاهديه، وأن لا يطغى النفس التحقيقي الآني عليه بالكامل. فهو يبحث في المدينة والمكان على صور ومشهديات خاصة، فيجد مثلاً في الفنادق الصيفية والتي كانت شبه مجانية للروس في زمن الشيوعية قبل أن يتحول كثير منها لفنادق خمس نجوم، كرمز لتغيير الزمن في المدينة والبلد. المخرج يصور بحساسية ما تبقى من فنادق “الشعب” تلك. يُسجل بهائها الخاوي. ويقارنه بعد ذلك بمشاهد لفنادق شبيهه تحولت في العقد الاخير لفنادق للاغنياء فقط. بغرفها التي يكلف بعضها بضعة الآلف من الدولارات الأمريكية لليلة واحدة. المخرج يُوثق جمال الطبيعة التي تحيط بالمدينة الروسية، والتي يقال إن الرئيس الروسي بوتين من عشاقها، وإنه، وبسبب هذا العشق، أراد لها أن تكون مدينة الاولمبياد الشتوي، رغم إن مناخها لا يصلح لقلة الثلوج فيه. يعود الفيلم في خاتمته للكشف عن حال الشخصيات التي ظهرت فيه. معظم من ظهر في الفيلم تعرض لمضايقات شديدة من السلطات الروسية، ومنهم من ترك البلد ويعيش اليوم كلاجيء في بريطانيا، حتى ذلك الشاب الروسي النحيل، والذي كان ينتظر العمال غير الشرعيين في الفجر، تعرض لضرب مبرح من جماعة حكومية،  لكن هذا لم يمنعه، وكما يُخبرنا الفيلم، من مواصلة نشاطه الأنساني.

 

 

 

 


إعلان