نصف قرن على بدء الهجرات لأوروبا
أمستردام – محمد موسى
نصف قرن تقريباً هو ما يفصل بين مشاهد الأسود والأبيض لصفوف طويلة من طالبي الهجرة من المغاربة، كانوا يتكدسون أمام سفارات أوربية في شوارع أنيقة في العاصمة المغربية الرباط في بدايات عقد الستينيات من القرن الماضي، وتلك المُلونة للاحتفال الرسمي بتنصيب الهولندي من الأصول المغربية أحمد أبو طالب، عمدة لمدينة لروتردام الهولندية قبل أعوام قليلة. هذان التاريخان الرمزيان سيشكلان ما يُمكن إعتباره زمن أحداث الفيلم التسجيلي الهولندي “بلد الوصول”. صورة النجاج الناصعة في المشاهد الختامية ستقابلها أخرى في الفيلم شديدة القتامة عن تعرقل عمليات اندماج بين مهاجرين ودول أوربية، والتي أعلن رسمياً ومراراً عن فشلها في السنوات الإخيرة. لن يُقدم الفيلم فقط رحلة النجاح لمهاجر، والتي انتهت بوصوله إلى قُمة هَّرم السلطة في البلاد الجديدة، هو سيمِّر على المطبات العديدة التي تُوسِّم علاقة مُهاجري أوروبا بمجتمعاتهم الجديدة.

ينتقي الفيلم التسجيلي الهولندي الضخم “بلد الوصول” مادته من خمسين عاماً من التغطيات التلفزيونية الأوروبية لموضوعة الهجرة، ويُعيد ترتيب، عبر المواد الأرشيفية المُتاحة، أحداث السنوات التي مرت على عجالة، وينبش في الصور النادرة ويربط الماضي وأخطاءه بالحاضر ومُعضلاته، ويُحاول أن يستشرف المستقبل، اعتماداً على تجارب سابقة، دون أن يُخفي خوفه من الآتي. فيما تُهيج مادته الأرشيفية الثرية والنادرة أسئلة على غرار: أين أصبح أولئك المهاجرون بوجوهم الشابة وعيونهم المفتوحة بدهشة، كما سجلتهم الكاميرات التلفزيونية وقتها، والذين دفعتهم الحاجة وخراب بلدانهم الى طلب الرزق خلف البحار، أين هم الآن، هل عادوا الى الأوطان الأم بعد تعاقدهم، وماهو مصير أبنائهم وبناتهم، هل لازالوا يعيشوا كأهلهم على هوامش المدن الكبرى، أم وجدوا الاستقرار الذي افتقده جيل الآباء ؟
بعد أن كان حَدَّث الدورة الأخيرة من مهرجان أدفا للسينما التسجيلية الذي ينعقد سنوياً في العاصمة الهولندية، وصل الفيلم التسجيلي الى العرض التلفزيوني في هولندا أخيراً. الفيلم الذي جرى تجميعه من مواد أرشيفية تلفزيونية يعود بعرضه على الشاشات الصغيرة لبيته الأصلي، ليكشف ضمن ما يكشف، تطور التغطيات التلفزيونية بشكل عام، ولموضوع الهجرة والمهاجرين بشكل خاص. يستعين الفيلم بأرشيف ضخم من عدة دول هي: بريطانيا، السويد، ألمانيا، هولندا، فرنسا، الدنمارك، بلجيكيا. هذه الدول هي التي شهدت الهجرات الأكبر في الخمسين عاما الماضية، بعضها لبناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية، والأخرى لسَّد حاجات بلدان لأيد عاملة بعد ثورتها الصناعية في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية.
تتفاعل التغطيات التلفزيونية مع التحولات الاجتماعية وأحيانا الانفجارات التي طَبَعت علاقة المهاجرين مع البلدان الجديدة، أو تفاعل السكان الأصليين مع وجود أولئك الباحثين عن حياة جديدة. الشيء اللافت في تلك التغطيات التلفزيونية هو الوعيّ المُبكر لقنوات تلفزيونية أوروبية بالأثر الاجتماعي لهجرات عمال من دول بثقافات مُختلفة للقارة الأوروبية. يُسجل مثلاً مراسل تلفزيوني هولندي لقاءات مع عمال مغاربة ينتظرون أمام سفارة بلده قبل خمسين عاماً ويطرح أسئلة مُفصلة عن المستقبل وأحلام هؤلاء العمال بحياة جديدة، فيما يقوم زميل له بمرافقة مجموعة من العمال الإيطاليين، الذين كانوا بالقطار في طريقهم الى هولندا. فالهجرة لم تقتصر وقتها على دول العالم الفقير البعيد، الإيطاليون والإسبان واليونانيون هاجروا بأعداد كبيرة للعمل في شمال أوروبا. لن يكون طريق أغلب المهاجرين سهلاً على الإطلاق، فستكون بانتظارهم مشاكل العالم الجديد، وسيعرفون حياة العوز، وسيسكنون في أحياء الفقراء على أطراف المدن. يُظهر تحقيق فرنسي الفقر المدقع لحي بعيد يسكنه مهاجرون، هو، وكما يصف المراسل التلفزيوني، يُشبه أحياء الصفيح في المغرب او تونس. “الغيتو” الذي كان يعيش فيه سكان ذلك الحي، لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي يُهيمن على ضواحي المدن الفرنسية والتي خرجت منها، وكل عقد تقريباً مظاهرات وأعمال عنف لأبناء مهاجرين، مطالبة كل مرة بتحسين ظروف حياتهم.

سريعاً سيتصدر المسلمون موضوع الهجرة الأجنبية إلى أوروبا الغربية. ليس بالضرورة لأنهم يُشكلون النسبة الأكبر من مهاجريها الجُدد، لكن صدى أحداث العالم المُضطرب سيتردد في القارة الأوروبية. وإذا كان أزمة رواية “آيات شيطانية” للكاتب البريطاني سلمان رشدي، كانت الأولى تاريخياً في سياق الغضب الشعبي الأكثر حدة لمسلمين في أوروبا، فإن الفيلم التسجيلي الهولندي سيقدم مشاهد، بعضها يعود لسبعينيات القرن الماضي، تظهر بدايات الانعزال بين مهاجريين مسلمين ومجتمعاتهم الجديدة. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، سينقلب العالم على رأسه، ويتحول “المُسلم” الى قنبلة موقوتة. بالطبع ستؤثر أفعال قام بها مسلمين على صورتهم في أوربا في الألفية الجديدة. فابن مُهاجر مغربي سيقتل مُخرجا هولنديا في عز النهار في مدينة أمستردام بسبب مواقف الأخير من الإسلام. ومسلمون شباب ولدوا في بريطانيا سيفجرون قطارات وباصات في لندن، وعنف الضواحي الفقيرة في دول أوروبية، سينضوي تحت عناوين فشل اندماج المسلمين في أوروبا، ويتم تناسي منابع مشاكل تلك الضواحي المُعقدة والغائرة.
أشرف على إخراج الفيلم الهولنديان: رينيه رويلوفس و باول سخيفر، والأخير هو فيلسوف هولندي عرف بمواقفه الحادة من الهجرة والمهاجرين في السنوات الأخيرة. يجتهد فريق الفيلم لتقديم مُعالجة شمولية مُعمقة من موضوع الهجرة، بالاعتماد على ما سجلته التغطيات التلفزيونية وقتها. لكن الفيلم يبدو في جزء كبير منه وكأنه نفض يديه من احتمالات نجاح اندماج المهاجرين وأبنائهم وأحياناً أحفادهم بالبلاد التي مازالت جديدة، فالاختيارات ركزت في مُجملها على الفشل والتصادم بين المهاجر ومُجتمعه الجديد، ولم تُبرز نماذج كثيرة ناجحة عن علاقات سويّة بين مهاجرين وبلدانهم الأوروبية. يصل تعليق باول سخيفر بين حقب زمنية، يُحلل بحكمة الفيلسوف الظواهر التي شهدها تاريخ المهاجرين إلى أوروبا، لكن الصُور ستملك قوتها الخاصة. هي ستقود المشاهد، وطوال ثلاث ساعات وقت الفيلم، من البدايات التي كانت تبدو وكأنها تؤذن وأحيانا تُبشر بفترات جديدة تلائم تفاؤل عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتدخل بعدها في عتمة سوء الظن والانعزال، والتمسك بصورة غير واقعية عن البلدان الأم أو الجديدة، وتيه لايزال مستمراً.