مصطفى استيتو: عريس المهرجان الوطني بالمغرب

أحمد بوغابة / المغرب

تنعقد الدورة الخامسة عشر للمهرجان الوطني للفيلم المغربي بمدينة طنجة من 7 إلى 15 فبراير الجاري. ويُعد هذا المهرجان أهم تظاهرة سينمائية على الإطلاق يحتضنها المغرب. إنه جزء من حيوية فنون السينما بهذا البلد ولا يضاهيه في القارة السمراء بأكملها سوى جنوب إفريقيا. أسبوع من الاحتفال والاحتفاء بالأفلام المغربية وصانعيها من الرجال والنساء، ومن مشارب تقنية بشموليتها، ومن أجيال مختلفة ومتباينة فكريا وجماليا. أصبح المهرجان الوطني للسينما المغربية مناسبة سنوية للتقييم أيضا في أجواء حميمية رغم ما قد يبدو أحيانا من سيادة قسوة النقد العنيف والرفض الجذري… أو في المقابل الترحيب بما تم إنجازه، بما له وما عليه. وككل دورة، في كل سنة، تواجه المتتبعين مفاجآت سينمائية وأحداث في غاية الأهمية مما يجعل هذا المهرجان ساحة للتجديد، وغير ممل، فيشجع على العودة إليه باستمرار ومتابعته، خاصة حين وجد بمدينة طنجة مقره الطبيعي على جميع المستويات بغض النظر للمحاولات اليائسة التي فشلت في تهجيره وتهريبه لاغتياله في مكان ما ليس أهلا لاستقباله. ويتعرض أحيانا لتلك الممارسات الهدامة ومثلها من الجهات المفروض فيها الدفاع على التظاهرة محليا ووطنيا بل من داخل المؤسسات الرسمية المسؤولة عنه معنويا وأدبيا وقانونيا وماليا. إلا أن لطف الله جعل سدا بينهم وبين المهرجان فغشى أبصارهم حيث عاقبهم بما لم يكونوا ينتظرون بإبعادهم وإقصائهم لترتاح الأمة السينمائية منهم. إنه سميع مجيب.

مصطفى استيتو

إذا كنا قد تعودنا في السنوات السابقة أن تُثار بعض الأحداث الأساسية أو الهامشية أو المُفتعلة إبان أيام المهرجان من طرف، أو أطراف، حسب موقعه وما يريده أو يسعى إليه بتوظيف السينما والتجمع الجماهيري الواسع ـ الذي تتيحه هذه التظاهرة الأكثر نجاحا ـ لإبراز “عضلاته” فإن هذه السنة قد سبقت المهرجان عدد من معطيات يمكن اعتبارها “تسخينية” قبل “المباراة” الوطنية. لأنها تشكل جزء من النسيج السينمائي المغربي، وما المهرجان الوطني إلا تتويجا لسنة بأكملها في أفق تأسيس لسنة جديدة. وما حققه المهرجان في السنوات القليلة الأخيرة هو الذي جعله يجلب إليه فعاليات من خارج المغرب، مدراء المهرجانات العالمية ومدراء القنوات التلفزيونية الأجنبية، أو من يمثلهم، ليس بهدف التغطية الإعلامية فقط وإنما لرسم علاقة مع أهل السينما بالمغرب أو شراء أفلامهم. وكثير من الصحف والمجلات المتخصصة الذائعة الصيت تبعث أقلامها المتميزة للمواكبة، وذلك راجع بالأساس أن المهرجان أصبح قارا في المكان والزمان يسمح لهم بتنظيم برامج أسفارهم، فاسألوهم إذا لم يكن بينكم مَنْ لا يصدق بما أقول؟ وهكذا تحول المهرجان الوطني الخاص بالأفلام المغربية فقط إلى مهرجان ذي بعد عالمي إلا أن كثير من السينمائيين المغاربة لم يتفاعلوا بعد مع هذا المعطى الجديد، أي دولي بثوب وطني. 

“دستور” السينما المغربية
ومن بين “الأنشطة” التي سبقت المهرجان، في الأسابيع الأخيرة، انعقاد لقاء للجنة المكلفة بدعم المهرجانات مع مدراء التظاهرات السينمائية بالمغرب والذي سمته اللجنة ب”لقاء تواصلي” لتقييم تجربة السنة. مهما يكن من نواقص التي عرفتها التجربة في أول خطوة لها فإن اللقاء جد هام ولو للإنصات وبس بين مختلف الفاعلين في الترويج للثقافة السينمائية ولذلك نعتبر تسميته ب”لقاء تواصلي” (رغم ما قد يحمل من تواضع أصحابه) فإنه كان مناسبة مهمة للكثيرين حسب ما علمته من الذين استفادوا منه حيث توضح لهم ما كانوا عنه غافلون. كما من المفروض أن تستفيد اللجنة من أخطائها وبعض الممارسات التي تمس من مصداقيتها.
كما تم أيضا تنظيم يوم دراسي حول النهوض بالإنتاج السمعي البصري ـ وتُشكل فيه السينما والأفلام السينمائية المشتركة مع القنوات وأيضا الأفلام التلفزيونية ـ وهو اليوم الذي شاركت فيه أكثر من 24 هيئة معنية بفنون السينما والإنتاج السمعي البصري فضلا عن مهنيين ذاتيين. لقد توج هذا اليوم بمجموعة من التوصيات والخلاصات والتي كان قد وصف وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، السيد مصطفى الخلفي، هذا اليوم بمثابة الجيل الثاني من الإصلاحات بالنقاش الجماعي والمقاربة التشاركية لتطوير وتحديث المنظومة القانونية للقطاع السمعي البصري برمته ليس في مجال الإنتاج فحسب وإنما أيضا في جودته.

سيلي هذين اللقاءين جلسة جد هامة صباح يوم 8 فبراير 2014، وهو اليوم الثاني من فعاليات المهرجان الوطني، سيتم فيها تقديم ومناقشة “الكتاب الأبيض للسينما المغربية” الذي أصدرته وزارة الاتصال كنتيجة للمناظرة الوطنية حول السينما التي كانت قد انعقدت في أكتوبر 2012. وقد أشرفت لجنة علمية على صياغته تكونت من ممثلي الهيئات وبعض الأسماء الأخرى اعتمدت على توصيات المناظرة ولقاءات مهنية. وهذا “الكتاب” سيكون بمثابة “دستور” السينما المغربية. لكن، هل سيتم الاحتفاظ بصيغته التي ظهر بها حاليا أم هو قابل للتعديل بعد لقاء مهرجان طنجة؟ وهل هو مُلزم للجميع حتى لمعارضيه؟ هل الإلزام يرتكز على سند قانوني؟ إن المناظرة نفسها عانت من نواقص عميقة وبالتالي فإن نتائجها تتضمن هي أيضا خلل في جوانب عدة والدليل أنه لم يحظ بالاهتمام الذي كان مطمح مَنْ فكر في تنظيم المناظرة وما ستسفر عنه (سنعود إليه – أي الكتاب الأبيض – بالتفصيل في مناسبة أخرى وما سُمي بالمناظرة الوطنية التي عبرنا من قبل على هشاشتها التنظيمية التي تكلف بها مَنْ هُمْ ليسوا أهلا بها).
ورئيس اللجنة العلمية، التي أشرفت على “الكتاب”، الأستاذ عبد الله ساعف هو الذي سيترأس لجنة التحكيم الرسمية للدورة الحالية للمهرجان الوطني، وهو أستاذ جامعي ووزير التربية الوطنية السابق، بمعية أسماء أخرى من داخل المغرب وخارجها. وستوزع هذه اللجنة 12 جائزة تشمل جل المهن السينمائية الأساسية (الموسيقى، المونتاج، الصوت، التصوير، التمثيل الرجالي والنسائي للدور الأول والثاني، السيناريو، فضلا لجوائز العمل الأول وجائزة لجنة التحكيم والجائزة الكبرى). ستبث هذه اللجنة في 22 فيلم طويلا كلها روائية حيث غاب هذا العام الفيلم الوثائقي من المسابقة.
ونُذَكِّرُ بكون إدارة المهرجان تقبل بجميع الأفلام المغربية الطويلة التي أخرجها مخرجون مغاربة خلال السنة (من تاريخ آخر دورة للمهرجان السابق) سواء داخل المغرب أو خارجه على أساس أن يعبر عن ذلك – المخرج نفسه – بتسجيل فيلمه عند المركز السينمائي المغربي. وبالتالي، فإن الفيلم الروائي الطويل لا يخضع للاختيار المسبق أو للانتقاء من لجنة ما كما هو حال الفيلم القصير.
وقد ركز البعض من خلال كتابات قصيرة سريعة عند الإعلان عن لائحة الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني على أحد الأفلام بعينها وهو “جيش الإنقاذ” لمخرجه عبد الله الطايع لإثارة الأسئلة حوله قبل عرضه باعتبار أن صاحب الفيلم، وهو كاتب له عدة مؤلفات، يعلن صراحة عن مثليته وأن الفيلم هو اقتباس من كتاب له يحمل نفس العنوان. فهناك من ينادي بالرقابة المسبقة ومنعه كتهمة قبلية وجاهزة، وبذلك يسير النقاش على الهامش وليس على المحتوى السينمائي. فيلم “جيش الإنقاذ” عاد جدا سينمائيا بل أقل من عادي وليس فيه اجتهاد فني على الإطلاق لكن سيصبح للفيلم مكانة إعلامية مهمة بالهجوم عليه بينما يمكنه أن يمر في صمت. فهل سيكون حقا هو الفيلم المحور لهذه الدورة إعلاميا وعلى الهوامش؟ أتمنى أن أكون مخطئ هذه المرة.

ملصق المهرجان

أما الأفلام القصيرة التي ستتبارى 21 منها أمام لجنة أخرى، يترأسها المخرج والمنتج المغربي عبدو عشوبة، فقد خضعت للانتقاء من لجنة اختارتها من بين 65 فيلما. وستتوزع عليها ثلاث جوائز هي الجائزة الكبرى وجائزة لجنة التحكيم وجائزة السيناريو.
جديد هذه الدورة 15 للمهرجان الوطني للفيلم المغربي تجسد في انتقاله إلى الخزانة السينمائية بطنجة بدلا من قاعة الروكسي التقليدية كاعتراف بما تقدمه الخزانة من خدمات سينمائية للمدينة وكفضاء ثقافي متميز لفنون السينما (تطرقنا لها في عدد من النصوص السابقة التي يمكن الإطلاع عليها في موقع الجزيرة الوثائقية). وستكون هذه القاعة مخصصة للمهنيين المحترفين بينما قاعة سينما باريس مفتوحة للعموم من سكان طنجة وزوارها.

عريس المهرجان الوطني
كل ما سبق كتابته أعلاه حول المهرجان هو جد مهم لأنه لحظات جماعية راقية من المتعة والفرح بالسينما والسينمائيين وما جاورهما من المهتمين والإعلاميين وغيرهم من محبي فنون السينما، سواء صفقوا أو صفروا أو احتجوا أو غضبوا أو مختلف التعابير الإنسانية. إلا أن هذه السنة متميزة بالتفاتة جد هامة في تاريخ المهرجان، منذ انطلاقه في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وأيضا في تاريخ المركز السينمائي المغربي منذ تأسيسه. وهذا التميُّز يرتكز على ممارسة إنسانية لها قيمة معنوية في غاية من الأهمية، تتجسد في الاعتراف بالجميل، والاعتراف بخدمات أسداها رجل للسينما المغربية طيلة أربعة عقود بالكامل، والتي كانت فيه السينما منعدمة الوجود تقريبا. وبذلك تخرج إدارة المهرجان من تقليديتها الروتينية بتكريم أسماء مخر جين أو ممثلين (لا أقلل من أهميتهم إطلاقا بل هي مهمة) نحو من يصنعها بشكل آخر. بمعنى يبنى لها الأسس، ويسطر لها الطريق، لتعمل باحترافية ويضحي من أجلها فوصلت إلى ما هي عليه الآن من الريادة والطليعية في القارة الإفريقية والأقطار العربية وحتى في حوض المتوسط. هو ليس بمخرج ولا تقني أو حتى كاتب سيناريو، لكنه سينمائي بالروح والجسد وثقافة عميقة حيث هو الذي بنى ترسانتها القانونية لتعمل وتنمو وتتطور وتكبر وترتقي وتزدهر وتفوز وترفرف في سماء أهم المهرجانات. كان راعيها ومحتضنها والمدافع عنها أينما حل، حتى سكنته فسكنها ولم يعد ممكن التفريق بينهما في الإدارة بالمركز السينمائي المغربي أو في المهرجانات والمحافل الدولية أو في البرلمان المغربي. إنه محامي السينما المغربية عن جدارة واستحقاق دون ملل أو الهروب منها. فالتفكير من لدن إدارة المهرجان تكريم السيد مصطفى استيتو هو أهم حدث سينمائي في الدورة 15 للمهرجان الوطني. تكريم هو بمثابة اعتراف به كإنسان في غاية الروعة بتواضعه وإنصاته واستعداده الدائم لتقديم خدمات سينمائية بروح احترافية.
وتكمن أهمية هذا التكريم الاحتفالي بالسيد مصطفى استيتو، الذي وصل سن التقاعد فغادر المركز السينمائي المغربي مع مطلع السنة الميلادية الجديدة الحالية، في كونه يتم خلال المهرجان الوطني وأمام كل السينمائيين الذين يعرفونه عن قرب ولا أحد يجهله أو لم يلتق به مرارا. إنه خسارة كبيرة جدا لهذه المؤسسة التي من الصعب تعويضه بمن يحمل نفس الصفات الإنسانية والاحترافية معا، وطيلة مدة 40 سنة دون أن يسقط في البيروقراطية القاتلة مع احترامه في ذات الوقت للسلم الإداري. سيكون السيد مصطفى استيتو عريس المهرجان وأميره. ويستحق وقفة احترام وتقدير وإجلال وزغاريد الحب حتى يتعلم منه الدرس من هُمْ على كراسي المسؤولية، وأن المكاتب لا تصنع الرجل المحترف إلا بمقدار ما يُقدِم من إنتاجه العلمي وحسن ممارسته ونيته. وللإطلاع على المسار المهني والسينمائي والإنساني للسيد مصطفى استيتو أحيلكم على مقال نشرته يوم 18 شتمبر 2013 بموقع الجزيرة الوثائقية بعنوان “ذاكرة المركز السينمائي المغربي”. 


إعلان