غبش البدايات في بقعة ضوء من غزة

غزة: تامر فتحي
منذ اليوم الأول فرضت أزمة الكهرباء نفسها موضوعا على ورشة الفيديو أرت، التي نظمتها مؤسسة حيفا للإعلام والفنون بغزة بعنوان “بقعة ضوء من غزة” بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون وشارك بها 18 فنان وفنانة أشرف عليهم الفنان التشكيلي محمد حرب واستضافها المعهد الثقافي الفرنسي الذي أُقيم به مؤخرًا مهرجان ختامي عُرضتْ به أعمال المشاركين، ففي أول أيام الورشة – الأول من نوفمبر الماضي- توقفت محطة كهرباء غزة تقريبًا عن العمل، ودخل القطاع في حالة من الظلام لم يسبق لها مثيل على مدار خمسين يومًا.   

وأزمة انقطاع الكهرباء، المعاناة اليومية التي يتكيف معها الغزيون بالشموع والليدات المضيئة والشواحن الكهربائية والمولدات، هي في حد ذاتها تصنع من غزة في الليل لوحات يتزاوج فيها الضوء الخافتة بالعتمة، كلوحة مصابيح السيارات وهي تسطع في وجه المشاة ثم تمرق في الطرق المعتمة، ولوحة كشافات الهواتف النقالة التي يحملها المارة في الشوارع الحالكة، وخيالات الظل على حوائط البيت على ضوء الكشافات والشموع، لوحات بصرية تصاحبها أصوات مولدات الكهرباء تحيل المشهد المأزوم إلى “فيديو أرت” طبيعي له جمالياته الخاصة التي تقف على الجهة المقابلة لجماليات الألق والبذخ الضوئي في أماكن أخرى.
هذه اللوحات البصريات- التي قد لايتوقف أمامها الغزي الذي يلعن انقطاع الكهرباء في كل ساعة- لم يلتفت إليها أيضا المشاركون في الورشة كثيرًا، وإن حاول بعضهم استثمار هذه المشاهد على استحياء – مثل فيديو “حركة، صنم” لنبيل ابو غنيمة وفيديو “حفل راقص” لبلال الجعبير، اللذان استخداما خيال الظل بشكل مباشر لكن دون توظيف حقيقي للشق البصري فيه بل على العكس حاول كلا الفنانين كسر إيهام الصورة بالكشف عن أصل مسببات الظل سواء كانت أطفال تلعب لعبة “حركة، صنم” أو شاب يحمل مصابيح كهربائية وكأنها عرائس الماريونت في فيديو “حفل راقص” لتنقطع العلاقة بين الفنان والمتلقي بانتهاء العمل.
في حين حاولت تجارب أخرى استحداث مشاهد بصرية متكلفة، كتجربة “شمعة واحدة لا تكفي” لخالد عيسى وتجربة “لا حياة لا موت” لنور المصري حيث يستحيل المواطن الغزي إلى سمكة حبيسة حوض زجاجي تتساقط عليها مصابيح الكهربائية في رقعة تضيق مع كثرة المصابيح المتساقطة، وتجربة “في العتمة” لطه أبو غالي حيث الباب المغلق هو مصير الشخص الخارج من النفق المغلق الذي يحسب أن الباب مفتوحًا، بينما أصاب الارتباك بعض التجارب كتجربة كاميليا زهد “حياة صراع” حيث نرى بذخ بصري من خلال تركيب صورة فوق صورة لم يخدم المدلول في الفيديو، بل إن صورة انقطاع الماء في أثناء غسل الأواني جاءت مباشرة على نحو سطّحَ الدلالات البصرية في العمل، وكذلك تجربة “كابوس” لعبد الحليم أبو ناموس التي جنحت للدراما البصرية.
وقد يبدو هذا مفهومًا بل وإيجابيًا أيضًا – إذا عرفنا أن أغلب المشاركين يمارسون الفيديو أرت لأول مرة- ، فما يبدو لنا متكلفًا أو مرتبكًا في الأعمال المشاركة في “بقعة ضوء من غزة” إنما هو محاولة لتطبيق ما تعلمه المشاركون من أساسيات، وفهم لفن ليست له جذور ضاربة في ثقافتنا، ويحتاج إلى كثير من التجارب المشابهة ليفرز لونه الأصلي.
فكما يكتب محمد حرب في مستهل كتيب المهرجان “هذه الورشة تأتي بمثابة فرصة لفنانيين من غزة لتنمية مهاراتهم والتعريف بهذا النوع من الفنون. وهي بمثابة تنفيس عن رغباتهم، وتفريغ لعوالمهم من خلال التعبير عن الذات ورفض الواقع الرمادي، وطرح القضايا العالقة في أذهانهم في بوتقة فنية من الصوت والصورة.”

محمد حرب وبعض الحضور

والفيديو أرت هو بالأساس فن نخبوي جاء بعد السينما لذا يُطلق عليه “الفن الثامن”، ويحاول من خلاله الفنان أن يعكس تصوراته الذاتية من خلال الصوت والصورة على نفس المتلقي بعد أن كان يعتمد على الريشة والخط واللون مستخدمًا الأدوات التكنولوجيا من كاميرا ومونتاج وصوت ليصنع لوحة تشكيلية متحركة.  
وإثارة التأويل في نفس المتلقي أو إقامة علاقة تفاعلية بين الطرفين (الفنان والمتلقي) هو القصد الحقيقي وراء “الفيديو أرت”، فالفنان ينطلق من منطلقه الخاص وما يعنيه تحديدًا، ليذهب إلى البعيد المطلق الذي يتلقه المتلقي فيعيد تأويله وبناءه من زاويته الخاصة ليصبح لكل مشروع فيديو أرت معنى وتأويل بعدد مشاهديه. لذا تقتل المباشرة المشروع الفني وتقضي على البراح البصري الذي ينتظره المشاهد وهذا للأسف ما وقعت فيه أعمال مثل، “عقاب بلا ذنوب” و “ضوء الجنة” و”رائحة الضوء” وأعمال أخرى.
في حين تترك أعمال مثل “ضوء من غزة” و”علاقة غير متجانسة” براحًا بصريًا يسمح للمتلقي بتفكيك العمل وإعادة بنائه من خلال دلالات عميقة تعيد اكتشاف المسكوت عنه والمرموز إليه في لحظة انقطاع وعودة الكهرباء، فيصبح التيار الكهربي مشحون بتفاصيل الحياة كمؤشر جهاز قياس القلب مع تفاصيل مرئية صغيرة للحياة اليومية في غزة كما في فيديو “ضوء من غزة” لمحمد حرب، في حين يفسح انقطاع التيار الكهربائي في فيديو “علاقة غير متجانسة” لمحمد الكرنز المجال لطاقة مضيئة من الحميمية جاءت على شكل ما يبدو أنه واقي ذكري وحيوانات منوية وهو ما قد يبدو غير متجانس مع الواقع المأزوم لكنه بالأساس المعادل الموضوعي لمقاومة الإحباط الذي يولده انقطاع التيار.         


إعلان