وثائقيات الأوسكار
محمد موسى
من المُرجح أن يواصل فيلم “فِعّل القتل” للمخرج الأمريكي الشاب جوشوا اوبنهايمر نجاحاته اللافتة، والتي بدأت منذ عام تقريباً، ويحصل على أوسكار أفضل فيلم تسجيلي لعام 2014، خاصة إن فوزه بجائزة البافتا البريطانية قبل أسابيع في فئة أفضل فيلم تسجيلي دليل جديد على مِزاج الوسط السينمائي العالمي تجاه الفيلم الصَّدْمةِ. الذي يزيد من حظوظ الفيلم إنه ينافس في قائمة تبدو، بإستثناء فيلم المصرية جيهان نجيم (الميدان)، محافظة في أساليبها الفنيّة، ولا تحمل شجاعة او تجديد فيلم “فعل القتل”، لجهة تجريبه الفنيّ من جهة، ومقاربته المبتكرة للحدث التاريخي الذي كان متروكاً للنسيان. لكن هذا لا يعني إن الأفلام الأخرى في القائمة هي خارج المنافسة تماماً، بل على العكس، فطبيعة جوائز الاوسكار ذاتها، بإقتصارها على الأفلام التي عرضت في الصالات الأمريكية، ربما ستميل لفيلم من خارج الترشيحات المتوقعة، فالذين سيصوتون بالنهاية على إختيار الفيلم الفائز، لا يختلفون كثيراً في ذائقتهم السينمائية عن الموزعين الذين يختارون الأفلام للعرض في الصالات السينمائية الأمريكية.

تتناول ثلاثة من الأفلام الخمسة المرشحة موضوعات سياسية، بعضها مُعاصر والآخر تاريخي، لكن بآثار ونتائج متواصلة في حياة أفراد وشعوب، فيقدم فيلم “حُروب قذرة” للمخرجين الأمريكيين جيريمي سكاهيل و ريتشارد رولي ، الحروب السريّة التي تخوضها أجهزة مخابرات أمريكية حول العالم ضد حركات إسلامية مُسلحة، فيما ترافق المُخرجة جيهان نجيم بدايات الثورة المصرية وتسجل تطوراتها الكبيرة، مع التركيز على التحولات الإجتماعية والنفسية لتلك الاحداث على شخصيات مصرية إنتقتها المخرجة، لتعبر عن أطياف المجتمع المصري، هذا رغم إن الفيلم أطلق منذ عرضه نقاشات لم تنتهي عن إنحياز الفيلم لجهات ما في المشهد السياسي المصري، او عن مدى تعبير شخصياته عن تعقيدات المجتمع الذي مر عبر تحولات مهمة في غضون سنوات قليلة فقط. اما الفيلم الثالث (فِعّل القتل)، فلا يغفل وبإستعادته فصل تاريخي داميّ من التاريخ الإندونيسي أن يشير الى تركات هذا الماضي المُتمثلة بعدالة لازالت غائبة، وتوارث مُقلق للعنف.
بعيداً عن السياسية، يقدم فيلم “الجميلة والملاكم” للمخرج زاكاري هاينزيكرينغ قصة إنسانية. حكاية فنانين تشكيلين يابانيين. زوج وزوجته يعيشان منذ عقود طويلة في نيويورك. الزوج الذي تجاوز الثمانين من العمر، لازال يواصل تعقب حلمه بالنجاح الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد بدايات مُبكرة مُبشرة في بلده اليابان، فيما الزوجة التي عاشت في ظلال أحلام الزوج لعقود، تريد الآن أن تنجز حلمها الفنيّ الخاص وقبل فوات الأوان. الفيلم حميم بأجوائه، وشخصياته لم تعد لديها ما تخسره، لذلك تفتح فلوبها للفيلم وبدون تحفظات كثيرة. ينظم الفيلم لمجموعة من الاعمال التسجيلية والروائية من السنوات الأخيرة، عن شخصيات لم تبلغ النجاح في حياتها المهنية. موضوعة النجاحات او فنانين يعملون في الظل ستكون وراء فيلم “عشرون قدماً عن النجومية ” للمخرج مورغان نيفيل ، والذي يتعرض في فيلمه الحيوي المُمتع لمغنيات ومغني الصفوف الخلفية في الولايات المتحدة الأمريكية، تاريخهم ودورهم وأحلامهم.

ينطلق الفيلم التسجيلي من الموضوعة الفنيّة المحدودة، ليتناول الظرف التاريخي الذي تشكلت فيه الظاهرة، ويمر على قضايا مثل العنصرية ضد الأمريكيين من الأصول الافريقية، والذين شكلوا السواد الأعظم لمطربي ومطربات الصفوف الخلفية. يملك فيلم ” عشرون قدماً عن النجومية ” تركيبة الفيلم التسجيلي الناجح، بربطه بين ظواهر عديدة وإنتقالاته الموفقة بين فقراته، وقدرته على جذب أسماء كبيرة جداً من عالم الغناء للمشاركة في الفيلم، لكنه لا يخرج عن تقاليد الأفلام التسجيلية التلفزيونية، هو يتفوق على كثير مما يُعرض على الشاشات، لكنه لا يُحلق أعلى من ذلك.
يبدو فيلم “حروب قذرة” الأضعف من بين الأفلام الخمس المُتنافسة. هذا الفيلم يَعِّد بالكثير وينتهي بالقليل الغير مرضيّ. هذا رغم إن صناع الفيلم سافروا الى أخطر المناطق في العالم للتحقيق في موضوعتهم عن الوحدات الأمريكية السريّة التي تخوض حروباً قذرة (كما يسميها الفيلم)، ضد التنظيمات الإسلامية المُسلحة. الفيلم إنشغل كثيراً بالتحقيق في نظريات وفرضيات، لكن الخلاصات التي وصل اليها غير مؤكدة وأحياناً غير مُقنعة. الأمر الذي يلقي بظلاله على الفيلم، الذي إجتهد كثيراً لكي يواصل تقاليد التحقيقات الصحفية الأمريكية الغابرة لكن بدون نجاحات كبيرة.
الشخصيات الواقعية المؤثرة التي إفتقدها فيلم “حروب قذرة”، ستكون حاضرة بشكل كبير في فيلم “الميدان”، فيلم الثورة المصرية الجديد.عبر تلك الشخصيات سنتعرف على تاريخ الثورة القصير الحافل بالأحداث والأحلام الخيبات وسوء الظن. يبدأ الفيلم بثورة أكتوبر ضد حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك، وينتهي بإقالة الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي العام الماضي، حيث إختارت المخرجة جيهان نجيم أن تنهي رحلتها التسجيلية من ميدان التحرير، الميدان الأشهر في مصر وربما في المنطقة.

الإكتفاء بثلاث أعوام من المتابعة التسجيلية ربما أثر على مستوى الفيلم وطموحه بتقديم صورة مُكتملة عن الثورة، وربما كان الفيلم سينتفع بمسافة زمنية ما تفصله على الحدث. كما غاب عن الفيلم، الشخصية التي تعكس الإتجاه الذي يملك زمام الأمور فعلياً في مصر، أي الجيش المصري، والذي يملك، وكما عرفتنا الأحداث، شعبية كبيرة جداً في الشارع المصري. هذا لا يعني إن تجربة الفيلم غير مُكتملة، المخرجة تنجح بالنهاية بصناعة فيلم يحمل نفس الوثيقة التاريخية التي ترتفع فوق التغطيات الإخبارية التلفزيونية او الأفلام التي تقدم أحداثاً راهنة، والتي يُصيبها القِدَم سريعاً.
الذي يميز فيلم “فعل القتل” ، عن الأفلام السياسية في المسابقة هو المسلك الذي أبتكره وقاده للكشف عن الفظائع التي كان يحقق فيها، من تاريخ إندونيسيا في عقد الستينات من القرن الماضي، الفيلم، الذي كان سيجد صعوبة كبيرة بإقناع شخصياته بالحديث عن دورهم في مجازر ذلك الزمن، يوقع تلك الشخصيات بشَرَك السينما ويكشف جرائهم عبر السينما، فيقنعهم بإعادة تجسيد أحداث المجازر تلك، عبر تمثليها مجدداً. هؤلاء سيغريهم سُحر السينما، الفن الذي تعلقوا به بشبابهم وعمل بعضهم كحراس للصالات وقتها. المحصلة، مشاهد تتدرج بين الكوميديا الى القسوة المفرطة. يدفع المخرج التجربة السينمائية الى حدود غير مسبوقة، ويخرج منها بنتائج باهرة، منها مشاهد عسيرة على المشاهدة، وأخرى متميزة بكوميديتها السوداء، الأمر الذي يجعل من العسير تقبل أن لا يحظى الفيلم بأعلى جائزة للسينما في العالم.