السرد المتـأني والأسئلة الخطيرة

“الرجال الكبار”.. عن استخراج النفط في أفريقيا وويلاته

قيس قاسم

تُسبق المخرجة راشيل بوينتون انجلاء اللقطة الأولى في المشهد الأول من فيلمها الوثائقي “رجال كبار” بأصوات أزيز أجنحة نحل، تجمع حول مفصل لأنبوب معدني لنقل النفط الخام النيجيري، تولد عند سامعها شعوراً بالانزعاج، الذي يشبه الى حد كبير الانزعاج والتوتر السائدين بين الناس المجتمعين حوله والمتخاصمين حول أحقية كل منهم بالنفط المار عبره.

راشيل بوينتون

صورة مركبة تعبر عن مضمون العبارة التي صاحبت مقدمة الفيلم والمنسوبة لأحد الاقتصاديين الغربيين: “حيثما ظهر النفط  في أفريقيا ازدادت المشاكل ونشب الصراع حوله بين الأخوة”. لا يتقيّد الوثائقي بحدود المقولة التي تحيل في ظاهرها أسباب الصراع، بالأساس، الى وجود النفط والمتحاربين من الأخوة حول مردوداته، بل يُعنى أكثر في مضمونها الواسع الذي يُشرك ضمناً أطرافاً كثيرة تدخل في عملية استخراج النفط  والصراع حوله من بينها الشركات الأجنبية العملاقة المُوَزعة مهماتها بين التنقيب والاستخراج والتصدير، أي تلك التي بأيديها كل تفاصيل عملية صناعة “الذهب الأسود” وعلي أصحابها الأثرياء يتوقف مستقبل البلدان الأفريقية التي أولت، بحكم حاجتها، مهمة الإشراف على انتاج نفطها اليهم، كما في نيجيريا وغانا اللتين أخذتهما المخرجة بوينتون كعَيِّنَتين واقعيتين: الأولى دخلت في آلية الدمار المنظم منذ اكتشاف النفط فيها قبل نصف قرن، والثانية كما توحي التفاصيل المتـأنية التي رصدتها في وثائقيها المهم، في طريقها الى ذات المصير.
تُظفَر حكاية “الرجال الكبار” من ثلاث خصلات: غينيا، نيجيريا، وصاحب شركة (كوزموس أنرجي) لإستخراج النفط جيم موسيلمان، الذي ستضفي قصته مع اكتشاف النفط قبالة السواحل الغانية، الى اتساع مدهش للمتن السردي المسيطر عليه بإنضباط والتزام  صارمين باللعب داخل اطاره حتى لا تفرط  الحكاية ويضيع الوثائقي في متاهات. ثلاثة أطراف ستعطي صورة عن الجشع والمؤامرات والحروب التي يسببها ظهور النفط في القارة الأفريقية. تتداخل فيما بينها وتحتفظ في سياق السرد على وحدتها الداخلية التي ستجعل من العمل واحداً من أهم الأعمال التسجيلية التي عرضت مؤخراً. صورة جيم موسيلمان الأولية تُقدم لنا كمستثمر تكساسي عصامي، بارع، مجازف أقنع لصغر حجم شركته، شركتين عملاقتين هما: (بلاك ستون) و(ووربورغ بنكوس) للمساهمة في مشروعه للتنقيب عن النفط في غانا. رحلته مع المشروع الطموح سنتابع تفاصيلها بما يمنحنا فرصة التعرف على كل الأطراف المشاركة فيها بخاصة والتسجيلي يتمتع بقدر كبير من الموضوعية والواقعية فالشغل هنا لا يعتمد على موضوع نظري بقدر ما يعتمد على التجربة الشخصية المنقولة على الشاشة.

خلال زياراته المكوكية بين غانا والولايات المتحدة الأمريكية، ينسج صاحب الشركة مجموعة علاقات مع قادة البلاد ما يُسهل عليه مهمته في الحصول على أول عقد لإستثمار حقول النفط في منطقة جوبلي، بإحتمالات ربح لا تقل عن بضعة مليارات الدولارات حالما يبدأ تسويق أولى منتجاته كما كان مخططاً لها في بداية عام 2010. لقد عومل موسيلمان حينها في غانا كرجل أسطورة يعَوَّل عليه الجميع في نقل البلاد من حالة الفقر الى الغنى، حلم أفسدته المخرجة راشيل بوينتون في سؤالها المستفز له: “هل هناك من احتمال أن تتحول غانا الى نيجيريا جديدة؟”.
لمعرفة ماذا حدث في نيجيريا يذهب الوثائقي الى “دلتا النيجر” حيث الفوضى تعم هناك وحرائق آبار النفط تظل مشتعلة طيلة الوقت بسبب العمليات التي تقوم بها مجاميع مسلحة تشعر بأنها محرومة هي والمناطق التي تعيش فيها من نعمة النفط الذي تسيطر عليه عوائل محددة وتنعم لوحدها بخيراته في حين هم يعيشون في فقر متقع يدفعهم للقيام بعمليات انتقامية فيحرقون الآبار النفطية ويسروقون النفط الخام من الأنابيب المارة عبر أراضيهم. الفساد علامة بارزة في النظام والثراء الفاحش مدلولاته واضحة على أبناء السلطة المحمية بقوة شركات انتاج النفط العالمية، لتأثير أسعار خاماته على أسواق المال في أمريكا والعالم كله. في زيارته لمواقع الحركات المسلحة يقدم الوثائقي فصلاً مهماً من فصول “الرجال الكبار” لأنه وفي هذا المكان بالتحديد سيجري شرح معنى عنوان الفيلم:”الرجال الكبار” كصفة تطلق على كل الرجال الأغنياء والجميع في البلد النفطي يريدون أن يصبحوا أغنياءًا، أي كباراً فيزيحون لتحقيق هذا الحلم الكثير من الموانع الأخلاقية والتي ستظهر بين المسلحين أنفسهم فبعضهم وبتحريض من شركات نفط عملاقة يقومون بإحراق منابع النفط وممراته مقابل المال في حين تحظى الشركات الأجنبية، الدافعة لهم، بعقود ضخمة من أجل “تنقية” المناطق المحروقة وتنظيفها من آثار التلوث والدمار البيئي. فهل ستعم الفوضى غانا بعد النفط؟ سيُترك هذا السؤال للتاريخ، لكن الوثائقي يحرص على متابعة الخط التسلسلي للأحداث التاريخية التي كثيرا ما تتشابه في رحلة اكتشاف النفط في أفريقيا من بينها: أن الجميع يريد الحصول على الحصة الأكبر من الكعكة، والمؤمرات تبدأ حالما  تطأ الشركات الأجنبية أقدامها الأراضي التي يراد البحث فيها عن “الذهب الأسود”. لقد سارعت الدولة، التي توسلت مجيء شركة (كوزموس أنرجي) أول الأمر، الى المطالبة بحصة وطنية أكبر من النفط المستخرج، في حين سمحت العقود الأولية التي وقعتها حكومتها مع الأطراف المستثمرة باستحواذهم على القسم الأعظم من مردودات بيع النفط،  ما سينشأ خلافاً حاداً وصل الى درجة اتهام الدولة شركة موسيلمان بالتلاعب وتقديم الرشاوى لموظفين غانيين سهلوا لهم توقيع العقود بشروطهم. الطرف الثالث في نيويورك متمثلاً في أصحاب الحصص الكبيرة في الشركة سيستعجلون انسحابهم من المشروع للحفاظ على سمعتهم والحفاظ على مستوى أسعار البورصة المالية في أمريكا فيقرروا طرد موسيلمان من وظيفته.

كل ذلك جرى في أجواء تآمرية رصدتها كاميرا بوينتون بهدوء وتأني مستفز. فبقدر ما كانت الأحداث تتصاعد كانت المخرجة تلجأ الى التروي وعدم الانسياق وراءها ركضاً مفضلة عليها طرح الأسئلة والاستماع الى أجوبتها من الأطراف المتشابكة في عملية التناحر الاقتصادي الجشع، مع حرصها على الاستمرار في تسجيل التطورات التي جرت في غانا منذ وصول شركات التنقيب والحفر حتى استخراج النفط عام 2011، وما رافقها من تقلبات على كل المستويات لتجمع عبرها تفاصيل صورة تاريخية تشير احتمالاً، الى وجود قابلية عند البلد وقادته لتكرار التجربة النيجيرية، فقادتها التزموا نفس الخطاب الرنان الذي سبقهم اليه النيجيرين، والوقائع تشير الى فسادهم واشتراكهم في عملية توزيع الحصص التي تديرها الشركات الأجنبية وتشمل بها معظم المؤسسات الحكومية وموظفيها، وخير دليل على انتشار الفساد والجشع أنه وبعد كل الصراع مع شركة “كوزموس أنرجي” والتي ظهر أن جزءًا من التهم قد رُتبت زوراً من أجل اجبارها على بيع حصتها ولكن وبعد انسحاب المموليين الكبار منها، اضطرت للتعاقد معها ثانية بذات الشروط تقريبا من أجل ضمان استخراج النفط وحصول المتنفذين في سلطتها على منافعه لحسابهم الخاص، في حين ظلوا في العلن يرددون كلاماً عاماً عن مصلحة الوطن والمواطن وتَنعمه بخيراته الطبيعية، كما يحدث في نيجيريا تماماً! أما موسيلمان فعاد الى البورصة وأنشأ شركة جديدة ربما ستذهب للتنقيب عن النفط في مناطق أخرى من أفريقيا لتعيد تجربة غانا ونيجيريا ثانية، فدورة ويلات النفط في القارة المنكوبة لن تنتهي ما دام الفساد سائداً ورغبة شركات النفط الأجنبية في الحصول على عقود جديدة جامحة لا حد لها. أما شعوب تلك القارة ومصيرها فآخر اهتمامتهم.
 
 


إعلان