“كيسمت”.. هكذا غيَّرت المسلسلات التلفزيونية التركية العالم

ثمة مفاجآت عدة في الفيلم الوثائقي اليوناني الذي أسهمت قناة الجزيرة في إنتاجه “كيسمت.. كيف غيَّرت المسلسلات التلفزيونية التركية العالم”، وتمثلت أولاها بحجم انتشار المسلسلات التركية في مناطق كثيرة من العالم، بينما كان الظن قويا بأن نطاقها ضيق يقتصر على تركيا والدول العربية. لكن من خلال مشاهدة هذا الوثائقي الذي عرض ضمن برنامج الدورة 16 لمهرجان تسالونيكي للأفلام الوثائقية، يتبيَّن أن مساحتها تجاوزت هذه الحدود ووصلت إلى البلقان ودول أوروبية وحتى أبعد من ذلك.

وأما المفاجأة الثانية فهي مقدار تأثيرها الشديد على المجتمعات التي عرضت فيها، وخاصة المجتمعات العربية، إضافة إلى اليونان لعمق العلاقات التاريخية والثقافية التي تجمعهما بها.

وآخر المفاجآت هي انتقاله من وظيفة التوصيف إلى كشف الغطاء عن المستور منها، لدرجة يتساءل المرء معها عن ما إذا كان فعلا لهذه المسلسلات نفوذ على أفكار الناس وسلوكياتهم؟ ومعه يطرح سؤالا عن مدى صحة الموقف النقدي النخبوي الذي يتعامل معها، باعتبارها نتاجا تلفزيونيا تجاريا يروج للتفاهات، والغرض منه قتل الوقت الفائض عند المشاهد وتبليد عقله.

إن المشاهدة المحايدة تفرض علينا التعامل مع فيلم اليونانية “نينا ماريا باسكاليدو”، ليس وفق موقفنا من موضوعه، بل مما يطرحه من حقائق لا بد من التعامل معها وتحليلها، كما هي.

نور ومهند.. رومانسية تحدث زلزلة بين نساء العرب

قد يلخص كلام المحللة الاجتماعية هنادي الجابر عن مسلسل “نور ومهند” ما أشرنا إليه من أن حوالي 95 مليون مشاهد عربي تابعوا هذا المسلسل، وقد أحدث ما يشبه الصدمة الاجتماعية عند النساء، وبدرجة أقل عند الرجال.

فكثير من النساء انبهرن ببطل المسلسل مهند، وحدثت حالات طلاق حقيقية بسببه، وبسبب تعامله مع نور التي يسارع دوما لمراضاتها إذا ما غضبت، مما أثار عند النساء العربيات سؤالا حول علاقتهن بأزواجهن، ولماذا لا يعاملوهن كما يعامل مهند نور؟

مسلسل نور ومهند.. زلزال تركي يهز أركان بعض بيوت العالم العربي

كما لا يخفي الفيلم وجهة نظر مغايرة عبّر عنها رجلٌ من الخليج، حين دعا إلى منع الأزواج من عرض مثل هذه المسلسلات في بيوتهم وعدم السماح لزوجاتهم بمتابعتها، لأنهم سيعضون أصابع الندم إذا ما قبلوا بوجودها.

وثمة جدل أثارته هذه المسلسلات يتعلق بالدرجة الأساس بالموقف من المرأة في مجتمعاتنا العربية وطريقة التعامل معها، كما أنها حفزت المقارنة بين مجتمعين مسلمين؛ الأول يبدو منفتحا يحترم المرأة، والثاني محافظا ذكوريا.

نماذج التحرر من العذاب.. جرأة تحتاجها المرأة العربية

في تجربة مجموعة من النساء العربيات التقى بهن الوثائقي، يتكشف مقدار ما تتركه المسلسلات من تأثير عليهن، كما جاء في شهادة سيدة منهن طلبت الطلاق من زوجها بعد 13 عاما قضتها معه في عيش مُر، ولم تتجرأ على خطوتها لولا مشاهدتها نماذج نسائية في بعض المسلسلات التركية طالبن بحقوقهن وحصلن عليها، كما حصلت هي على حق الطلاق.

إذن فثمة تحفيز على خطوات جريئة تحتاجها المرأة العربية، وثمة كشف عن المستور يقدمه الوثائقي بشكل صارخ أثناء زيارته إلى مصر، والحراك الشعبي في أوجه.

ففي بيت عائلة مصرية كانت تتابع مسلسلا تركيا، يرصد الوثائقي من خلالها قدرة الناس على فهم وظيفة البرامج التلفزيونية وتوقيتها كما ورد في حديث ربة المنزل: جاء عرض المسلسلات التركية وخاصة الرومانسية منها، والتلفزيون المحلي مشغول بعرض برامج عن الصراع الجاري والظلم في البلد، في حين كانت المسلسلات التركية تقدم قصصا إنسانية كان المصريون بأمس الحاجة إليها.

وتقول ابنتها: تظهر التركيات غالبا في مسلسلاتهم أنيقات وجميلات وغنيات، وأما رجالهم فرومانسيون يعاملون النساء بشكل جيد، وهذا ما نفتقده في يومنا هذا.

إحداث التغيير.. فن هندسة العقلية الاجتماعية

وجهات نظر تتعلق بالحاجة غير المُلبّاة، وبالشكل المبهر الذي يأتي عبر المسلسلات التركية، لكن ثمة نوعا من التحفيز المختلف تبلور عبر تجربة فتاة تعرضت للتحرش الجنسي، أثناء قيامها بالتظاهر ضد حكم مبارك، ورغم كل الضغوطات العائلية وتحفظ الأقارب، فقد أصرت على إقامة دعوة ضد مجموعة ضباط من الجيش أجبروها على التعري في أحد مقراتهم للكشف عن عذريتها.

مسلسل “فاطمة” التركي يلهم فتاة على إجبار السلطات المصرية على وقف ما يسمى اختبار “كشف العذرية”

لقد أرادوا إذلالها، ولكنها لم تخضع واستمرت في شكواها، حتى أجبرت السلطات إثرها على وقف ما يسمى “كشف العذرية”. وحكت أمام كاميرا الوثائقي عن تأثرها بمسلسل “فاطمة” الذي يحاكي تجربتها، فقد عرف الأتراك كيف يلعبون بمفاتيح المجتمع التركي، ومسلسلاتنا ينبغي أن تتعلم منهم كيفية الدخول إلى أعماق الناس وتوصيل الرسائل الإيجابية إليهم.

مسلسلات العدو الجار.. تسلل العثمانيين إلى بيوت اليونان

رغم العلاقة الشائكة بين تركيا واليونان، فإن المسلسلات التلفزيونية تلعب دورا في تقارب المجتمعين، وللتحقق من هذا الفعل قامت المخرجة “نينا ماريا باسكاليدو” بزيارات وأجرت حوارات بين الطرفين.

لقد أحدث مسلسل “حريم السلطان” ردود فعل متباينة في اليونان لأنه تناول فترة تاريخية خضعت خلالها اليونان لسطوة الحكام العثمانيين، مما ولَّد كراهية ما زالت موجودة عند بعضهم حتى اللحظة، بالرغم من المشتركات التاريخية الكثيرة التي قدمها الوثائقي من خلال زياراته إلى بيوت يونانيين مولَعين بمتابعة المسلسلات التركية، وهو الأمر الذي اعتبرته إحدى المُسنات نوعا من التطرف وسوء الفهم للعلاقات التي تجمع الشعبين.

حريم السلطان.. يعرض في تلفزيونات الجارة العدوة اليونان

وفي نفس السياق توفرت للوثائقي لحظة مناسبة ليسجل المظاهرات الاحتجاجية التي نظمها القوميون المتطرفون ضد قناة “إي إن تي1” اليونانية ورفعوا خلالها شعارات، مثل: “نحن لن ننسى.. نحن نريد الانتقام”.

وقد انتبه الصحافي “نيكولاس هيلاوكيس” إلى جانب يراعيه الأتراك في مسلسلاتهم التاريخية، ويتمثل في “عرضهم مساحة كبيرة من المناطق الجغرافية والمدن التي تثير شعورا بالحنين إلى الماضي عند اليوناني، فيقبل على مشاهدتها”.

“إنه قصة نجاح للمسلسل التركي في الوطن العربي”

على المستوى المحلي، ثمة فرح يسود الأوساط الفنية من توسع مساحة عرض المسلسل التركي خارج البلاد، وأحيانا يعطي مُنتجيها حقنة زائدة من الفخر القومي، كما تجلى في حديث مدير قناة “دي” (D) عن مسلسل “نور ومهند”، إذ يقول: عُرض في أكثر من 45 بلدا. إنه قصة نجاح للمسلسل التركي في الوطن العربي، فهي تبين مقدار تقدمنا ومعاصرتنا، وتظهر لهم طريقة تفكيرنا ومستوى حياتنا.

لكن على مستوى ثان، نجد التعبير عن المشكلات الاجتماعية متجسدا في المسلسلات التركية نفسها وأحاديث المشتغلين فيها وبشكل خاص كتابها، ومعظمهم من النساء، مما يوضح كثيرا من التداخل بين الواقع والمسلسل كما في مسلسل “حياة” الذي تناول مشكلة تزويج الفتيات بدون رغبتهن وفي سن مبكرة.

مسلسل “حياة” حيث تجبر الطفلة على الزواج من ابن عمها الذي يكبرها بكثير

يربط الوثائقي بشكل بارع ومؤثر بين تجربة بطلة المسلسل وتجربة سيدة تركية أجبرها والدها على الزواج من ابن عمها الذي يكبرها كثيرا، وقد عاملها بقسوة دفعتها إلى تركه، لتتولى تربية ابنتها بنفسها.

انعكاسات قصصها على الآخرين فعال كما جاء في جولة الوثائقي في بلغاريا والولايات المتحدة الأمريكية، وبيَّن مقدار محاكاة ما يأتي في المسلسلات التلفزيونية التركية مع الواقع الحقيقي في أماكن مختلفة من العالم.

يربط الوثائقي بشكل بارع ومؤثر تجربة سيدة تركية أجبرها والدها على الزواج من ابن عمها الذي يكبرها كثيرا والذي عاملها بقسوة دفعتها الى تركه لتتولى تربية ابنتها بنفسها، وبين تجربة بطلة المسلسل. انعكاسات قصصها على الآخرين فعال كما جاء في جولة الوثائقي في بلغاريا والولايات المتحدة الأمريكية، وبيَّن مقدار محاكاة ما يأتي في المسلسلات التلفزيونية التركية مع الواقع الحقيقي في أماكن مختلفة من العالم؟


إعلان