“داعش” تقاتل الجميع في “الجبهة السورية الثانية”

محمد موسى

“داعش أكثر قسوة من النظام”. هذه العبارة او تنويعات منها ستتردد على طوال زمن الفيلم التسجيلي القصير “سوريا الجبهة الثانية” والذي كان أحد فيلمي الحلقة الأخيرة من برنامج “خط المواجهة” التسجيلي الأمريكي الذي يعرض على شاشة قناة “PBS” الأمريكية. “النظام” هنا، هو ما تبقى من الدولة السورية بقيادة بشار الأسد، و”داعش” هي الفرع السوري لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. يَصّبَغ جنود في الجيش السوري الحرّ تجربتهم الخاصة على العبارة ذاتها. فتتحول “داعش” أحيانا ل “مجرمة”، او “بربرية”، او “لا تفقه شيء من الدين الإسلامي”. كل واحد من أولئك الجنود عَّرف “داعش” عن قُرب. “لقد قتلوا إخوتنا” يتحدث شاب بنبرة صوت تقترب من الصراخ لكاميرا الفيلم التسجيلي الأمريكي. فيما يُفضل زميل له التفصيل، ويشرح بروية الأثر الذي تركته داعش على الثورة السورية، ويحذر من عواقب أن تسقط بلده تحت سيطرة التنظيم، عندها “لن يبقى من سوريا شيئاً ” كما يَصِّف.

لكن “داعش”، التي وعدنا التحقيق التلفزيوني الأمريكي، بالتقرب من عالمها، غابت عن الفيلم، فلم يظهر أفرادها فيه، وما زلنا نجهل الكثير عنها وعن مبادئها او طموحاتها للبلدان التي تقاتل فيها ومن أجلها. والصحفي السوري (محمد علي)، والذي تطوع في مهمة خطيرة للغاية للاقتراب من جبهات القتال الجديدة بين الجيش السوري الحرّ وداعش، لم يصل الى نتائج تذكر، لجهة اقترابه من عالم التنظيم الجديد. بالمقابل، سجل الصحفي السوري تفاصيل من الحياة اليومية لمجموعات من الجيش السوري الحرّ، وهي تستعد لمعركة، هي سلسلة من حرب طويلة. حرباً لم يكن الجيش السوري الحرّ يتوقعها او يرغبها، ويجد نفسه اليوم مُرغماً على الخوض في وحلها العميق.

يشرح الصحفي السوري طبيعة مُهمته القادمة للكاميرا قبل أن يدخل الحدود السورية من الجهة التركية. هو يريد أن يتقرب من جبهات القتال الجديدة لداعش مع أعدائها التي تفتحت في سوريا في العام الأخير. لكن داعش تكره الصحفيين. تعتبرهم خونة وجواسيس، وتعاقب من تمسك به بقسوة شديدة. يختار محمد أن يسجل القتال الدائر من جانب الجبهة الأمين. من طرف الجيش السوري الحرّ. سيقضي الصحفي أيام مع مجموعة من المجاميع التي تعمل تحت عنوان فضاض هو “الجيش الحرّ”. رغم إنها مازالت بعيدة كثيراً عن تنظيم الجيش. فمعظم أفراد المجموعة لا يملكون خبرة في القتال. هم أبناء ريف، دفعهم بطش النظام السوري وداعش للبحث عن وسيلة للدفاع عن حياتهم وبلدهم. الجيش الحرّ يواجه أيضا نقص العتاد والأسلحة، فيما أعدائه يملكون منه الكثير.

يَجِد التحقيق التسجيلي في فيلم مُروع صوره هواة لعملية إعدام قامت بها داعش لأفراد من الجيش السوري الحرّ في بلدة الأتارب السورية، المادة التي ستمنحه البناء المشوق. فمجموعة السوريين المنضوية تحت اسم الجيش السوري الحرّ كانت تستعد وقت التصوير لاستعادة تلك البلدة الحيوية بموقعها الجغرافي. الفيلم لم يُصور المعارك، لأنها لم تقع، فداعش انسحبت من البلدة، قبل أن يصل اليها الجيش الحرّ. لكن البناية التي سالت على عتبتها دماء سوريين من الجيش السوري الحرّ قبل أشهر لازالت قائمة، وشعار داعش الأسود لازال يغطي جدرانها. يتحدث ناس من البلدة عن صمودهم تحت حكم “داعش”، لكن بعبارات اقل حماسيّة من الجنود الذين حرروها ووجوه يبدو عليها التردد، فجبهات القتال تتغير منذ عامين هنا، ولا أحد يعرف ما يمكن أن يحمله المستقبل.

في الجزء الثاني من الحلقة التسجيلية التلفزيونية الخاصة بسوريا، عرضت القناة الأمريكية فيلماً قصيراً بعنوان “أطفال حلب”. كما يُشير العنوان، سيكون الفيلم عن أطفال عاصمة شمال سوريا، المُقسمة الآن بين سلطة النظام والجيش الحرّ. الفيلم سيسجل يوميات لأطفال من جبهة الجيش الحرّ. فيلتقي عائلة رفضت أن تترك والدها المنتمي لأحد التنظيمات المُسلحة، وبقيت في المدينة التي بدت بعض أحيائها كمدن اشباح. يلتقط الفيلم تفاصيل صغيرة لكن شديدة التأثير، فيصور أطفالاً يلعبون على شرفة بيتهم المسيجة بالحديد كزنزانة سجن. اللعب ذاك ستقطعه صوت قذيفة تجعل الأطفال يقفزون خوفاً من شدة الصدمة، ليعودوا الى واقع المدينة العنيف. في مشهد آخر، وأثناء مقابلة مع إحدى فتيات الحي، ستنفجر قنبلة اخرى، سترتجف الطفلة التي لم تتعدى السابعة، بعدها تصرح بثقة الخبير الحربي إن القنبلة سقطت من مكان قريب جداً من بيتها. في مشاهد اخرى ترافق الكاميرا مجموعة من أطفال الحي وهم يلعبون بشقق جيرانهم الفارغة، والتي تركوها بعد تفجر المعارك في المدينة. الشقق المفتوحة المُدمرة هي الآن ملعب ما تبقى من أطفال الحي.

لا يُمكن مُحاسبة الأفلام التي تُنجز عن سوريا او عن مناطق حروب اخرى فنيّاً. فهي تصور في ظروف صعبة للغاية، وصانعوها يغامرون بحياتهم من أجل تنفيذها. لكن يمكن محاسبتها على قدر إخلاصها بنقل صور صادقة ومتوازنة عما يجري هناك. يجتهد الفيلمان القصيران بنقل صورة محايّدة عما يجري في سوريا. فبجانب القنوط الذي غلف أجزاء طويلة من فيلم “أطفال حلب”،  هناك صور اخرى أكثر تفاؤلاً، عن أطفال وبالغين مازالوا يخرجون، ومنذ أيام الثورة الاولى قبل ثلاثة أعوام، كل يوم جمعة في مظاهرات ضد حكم النظام السوري. يبدو السوريون الذي يخرجون في تلك التظاهرات، وكأنهم يحتاجوا أن يعودوا الى نبع الغضب الأول، خاصة مع انسداد افق المستقبل وضبابيته. الفيلم يعرض تلك المظاهرات وكأنها احتفالاً يوميّاً بالحرية. ثم يعود ليقدم صور دمار الحيّ الذي يقطنه معظم المشاركين في تلك الإحتجاجات. هي سوريا اليوم، تبحث عن طريقها ولا تنسى مُثلها. حتى مع فيلم “سوريا الجبهة الثانية”، والذي لم يحقق هدفه بالكامل، سجل هو الآخر يوميات لجنود من الجيش السوري الحرّ. والحصار المزدوج الذي يعيشوه، بين قسوة جيش النظام السوري وقوات داعش التي لا ترحم.

تحول برنامج “خط المواجهة”، والذي تعرضه قناة “PBS” الأمريكية الى منصة لعرض أفلام تسجيلية عن سوريا، وأيضا للنقاش عن واقع البلد ومستقبله. فمع الافلام التسجيلية الخاصة بسوريا والتي تعرض دورياً ضمن البرنامج، خصصت إدارة البرنامج موقعاً على الإنترنيت لبحث الأزمة السورية، فهناك خريطة للمعارك وتقاسم النفوذ في سوريا تتبع ما يجري على الأرض، وكذلك يمنح الموقع فرصة للنقاش بين متصفحيه عن القضايا التي يتناولها.

أما قناة “PBS” فهي قناة غير ربحية أمريكية تأسست في عام 1970، تعتمد في جزء من تموليها على مساعدات الحكومة الأمريكية، والجزء الآخر على تبرعات أفراد ومؤسسات. تتميز برامج القناة بالجديّة والانفتاح على موضوعات محليّة ودولية، لا تجد غالباً فرصاً للعرض على القنوات الأمريكية التجارية.


إعلان