مُدن اللاجئين السوريين في تركيا!
محمد موسى
تشرح الفتاة السورية محتوى الرسالة الإلكترونية التي وصلت إلى عنوان مجلتهم لزميلها السوري الشاب، والذي كان يجلس على الجهة الأخرى من الطاولة: “إنها من فتاة سورية كانت تدرس في جامعة حلب، هي تعيش خارج سوريا الآن، ومقالتها عن تجربتها في السنتين الماضيتين من الثورة خلف أسوار الجامعة”. يأخذ زميلها الرسالة، يقرؤها على عجل، ثم يطوي الورقة بغضب واضح ويرميها على الأرض. “إنها تهاجم الطلبة المنتمين للتيار الإسلامي”، يتحدث بانزعاج. اجتماع التحرير هذا، لم يكن في أي من مناطق سوريا المحررة، أو في مبنى إحدى المؤسسات الإعلامية السورية في الخارج، بل كان في “كرافان” مؤقت في واحد من معسكرات اللاجئين السوريين العديدة القريبة من الحدود السورية التركية، حيث يعيش بضعة آلاف من السوريين، بانتظار العودة التي طالت. هؤلاء يثيرون منذ سنوات شهية التلفزيونات ومخرجي الأفلام التسجيلية، والذين اتجهوا إلى هناك لإنجاز أفلام عن حياة ويوميات سكان تلك المخيمات.

من الأفلام الجديدة عن مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا، فيلم “بعيد” للمخرج التركي أحمد يورتكول، (أحد أفلام الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان إسطنبول السينمائي والتي عقدت من 5 وإلى 20 من شهر أبريل الجاري) والذي يُسجل الحياة اليومية لواحد من أقدم مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا. تحول المخيم، والذي كان عمره وقت تصوير الفيلم ما يقرب العامين ونصف، إلى قرية أو مدينة سورية صغيرة. زرع أبناء المخيم أشجارهم وزهورهم المفضلة على جوانب البيوت المعدنية المؤقتة، وبدأ بعضهم في ممارسة الأعمال نفسها، التي كان يقومون بها في مُدنهم وقراهم السورية. بل إن بعضهم حزم أمره، بالبقاء وإرسال أبنائه الى المدارس التركية، خاصة مع انسداد أفق المستقبل في البلد الأم، والخوف على ضياع سنوات من عمر الأبناء. لتشبه التحولات التي تمر على المخيم وناسه، على الأرجح، تلك التي مرَّ بها لاجئون فلسطينيون، ظنوا أيضا في سنوات هجرتهم الأولى أنهم عائدون بلا شك وفي غضون أشهر قليلة، قبل أن تتعاقب السنوات عليهم في المُخيمات نفسها، والتي يعيش في بعضها الآن أبناء وأحفاد الجيل الأول من اللاجئين الفلسطينيين.
بدل الحفر العميق في حيوات سكان المخيم، يختار الفيلم التسجيلي التركي تقديم صورة بانوراميه انحازت لأسلوب التلفزيون التقريري الآني الذي يهدف في الغالب لحشر عدد كبير من الصور والحكايات ضمن الحيز الزمني المحدود له. يضيع الفيلم فرصاً عديدة لتتبع قصص كانت تشير إلى فداحة وقسوة ما يحدث في سوريا، ويختار عوضا عنها الصور العمومية. فعندما كان يرافق مختار المخيم السوري (طيار مدني سوري سابق تم انتخابه بطريقة ديمقراطية من قبل سكان المخيم أنفسهم)، تصل سيدة سورية ترغب في الحصول على إذن للعودة المؤقتة إلى بلدها، لأجل حضور جنازة ابن أخيها، والذي قُتل في المعارك الدائرة هناك. لا يحاول الفيلم أن يبحث بمزيد من التفاصيل عما يعنيه فقد فرد من أفراد العائلة، لهؤلاء الذين يعيشون بشكل قسريّ بعيداً عن وطنهم ومعظم أهلهم. والأمر يتكرر عندما يرافق الفيلم مُختار المخيم، وهو يُوزع هدايا لأطفال المخيم من أبناء المعتقلين أو الذين قتلوا في الصراع. يضيع الفيلم فرصة أخرى للتوقف قليلاً عند تلك اللحظات والتي تكتنز بمشاعر عاطفية شديدة التأثير.

وحتى مع الشخصيات التي تبعها الفيلم أكثر من غيرها. بقي مستوى التناول يتعلق بشكل أساسي بظروف الحياة في المخيم وليس دائماً بعلاقة ذاك مع المكان الأصلي لهؤلاء السوريين. فالشاب السوري الذي يشرف على تحرير مجلة المخيمات، والذي يقوم أيضا بإعطاء دروس لشباب المخيم، لم يخرج ما تحدث به عن العموميات. لجهة الحديث عن الحياة الخاصة له أو المجتمع الذي أتى منه. وهو الأمر نفسه الذي عانته شهادة صبية سورية، تعلمت اللغة التركية بسرعة كبيرة، وتستعد لدراسة الحقوق في مدينة أنقرة التركية. ستكون هذه الفتاة إحدى شخصيات الفيلم الأساسية، لكن شهادتها هي الأخرى لا تملك العاطفية أو التفصيلية المُهمة، عدا مشهد متأخر في الفيلم، تظهر فيه وهي تراجع عيادة المخيم الطبية، بسبب أعراض مرضية تهاجمها، ويُرجح أنها تُعود لأسباب نفسية.
شخصية واحدة فقط ارتفعت بالفيلم عن مستواه التلفزيوني الإخباري المُتفائل، وغاصت قليلاً في الوجع السوري. هي لسوري في منتصف الأربعينات من العمر، من الذين لم تشغلهم السياسية في الماضي. هذا الرجل قاوم مع عائلته فكرة الهجرة، فكان يترك لأسابيع بيته في القرية الصغيرة المهددة من الجيش السوري النظامي، ويلتجئ إلى الحدود التركية، ثم يعود في اليوم التالي إلى البيت. بعد أسابيع من الهجرة اليومية، تقرر العائلة اللجوء الدائم لتركيا. عندما يحاول السوري أن يجيب عن سؤال الفيلم عما تعنيه الهجرة القسرية، كادت الدموع تكاد تنفجر من عينيه. يخرج الرجل مجموعة الصور الفوتوغرافية التي حملها معه من بيته. “هذه لابني محمد عندما كان في الثانية”، يشير لصورة طفل يرتدي نظارة شمسية للكبار. “إذا لم تنته الأزمة السورية في منتصف عام 2014 سوف أنتقل إلى مدينة تركية وأرسل أبنائي إلى مدارس هناك”، يكشف الرجل بحزن .. لكن بحزم.

فيلم “بعيد” ليس الأول الذي يتناول موضوعة اللاجئين السوريين في تركيا، فقبل عامين عرض فيلم بالتوجه نفسه للمخرجة البرازيلية لارا لي عنوانه: “معاناة الأعشاب: عندما تتقاتل الفيلة، الأعشاب هي التي تعاني”، والتي تذهب بدورها إلى مخيمات اللاجئيين السوريين في تركيا لتسجل من هناك شهادات ناس عاديين، وجدوا أنفسهم في خضّم صراع مسلح دموي اجتاح بلدهم. الفرق بين الفيلم الأول وفيلم “بعيد”، أن المخرجة البرازيلية قضت وقتاً طويلاً في المخيم، لتخرج وثيقتها التسجيلية ثرية بتضمنها شهادات مُفصلة عاطفية ومؤثرة. في حين يكتفي فيلم “بعيد” بمرور سريع على المخيم السوري، فجاءت شهادات ناس المخيم بدورها عادية ولا تتضمن العمق الذي لا يجعلها تقاوم الزمن، أو لتتحول إلى جزء من أرشيف سنوات سوريا والسوريين العصيبة هذه.