“بطاقة عِرق”.. ضريبة أن يكون الإنسان أسود في السويد
أحدث فيلمُ “بطاقة عِرْق” (Raskortet) للمخرج عثمان كريم ضجةً على أكثر من مستوى، وهو ما كان متوقعا، ليس بسبب موضوعه الإشكالي فحسب، بل بسبب حذاقة مخرجه وأسلوبه السينمائي المرتكن على تنويع الصورة الثابتة وتحريكها بعوامل إضافية بطريقة في غاية الرشاقة والجمال، مما جعله يستحق عليه الثناء.
وقد استثمر المخرج الأرشيف الزاخر بوثائق تاريخية دامغة تؤرخ لممارسات العنصرية على مدى زمني طويل يتجاوز الصورة المتحركة، كاللوحات الفنية والتخطيطات التي أخذت حيزا في عمله، مما وسع من فضاءاته، رغم اعتماده أساسا على شهادات شفهية وتجارب لشخصيات سمراء البشرة ذات أصول أجنبية، أغلبيتها تنتمي بقوة إلى المجتمع السويدي.
بعض هذه الشخصيات تبوأت مواقع جيدة فيه، مما يعطي لشهاداتهم قوة تماسك صلبة تضفي جوّا من الأسى المشحون بأسئلة حول سبب الإحساس القهري الذي يخالجهم ويستقر في نفوسهم، وهم الأجدى بحياة سوية في مجتمع أضافوا إليه الكثير، ومع هذا فإنه من الناحية العملية يميزهم عن أبنائه، مصرّا على وضعهم ضمن معادلة “هم” البعيدون عنا “نحن”.
اختبار الدمية.. تفوق العرق الأبيض المتغلغل في الأطفال
على مستوى التحليل، يمكن أن نقول إن الفيلم يخرج من إطار الشهادات الحياتية إلى دراسة الظاهرة بحصافة البحث الوثائقي الذي تجسد في اختيار صانعه مدخلا استهلاليا له اعتمد على دراسات نفسية صادمة تعلن عن عمق الشعور بالتفوق عند الرجل الأبيض، وتأثير سلطته حتى على الأطفال.
ظهر ذلك في الفيلم عبر توليفة سينمائية فطِنة عرضت ما توصل إليه العالمان النفسيان “مامي فيليبس كلارك” و”كينيث بانكروفت كلارك” في أربعينيات القرن الماضي، وذلك عبر اختبارهم المشهور على مجموعة أطفال من أصول أمريكية أفريقية، أطلقوا عليه اسم “اختبار الدمية”، وقد أرادوا من خلاله دراسة تأثير التمييز العرقي على الأطفال ومقدار تقديرهم لقيمتهم.

وقد اختارا لبحثهما مجموعة من الأطفال السمر وعرضوا عليهم دميتين، إحداهما سمراء والأخرى بيضاء، ثم تركوا لهم حرية اختيار الدمية التي يريدون اللعب بها، فكانت النتيجة أن أغلبية الأطفال اختاروا الدمية البيضاء، لأنها كما قالوا أجمل وألطف، الأمر الذي أوصل العالمين إلى نتيجة مفادها أن اختيارات الأطفال السمر للدمية البيضاء، ما هي إلا انعكاس واضح للنظرة الاجتماعية السلبية لذوي البشرة السوداء.
والغريب أنه في عام 2008 أجرى علماء نفس دانماركيون نفس الاختبار، ولكن هذه المرة على أطفال مختلفي البشرة، أي لم يقتصر على السمر فقط، وكانت نتيجته مطابقة لتلك التي توصل إليها العلماء الأمريكيون قبلهم في الأربعينيات، فأغلبية الأطفال اختاروا الدمية البيضاء وفضلوا اللعب بها.
سود السويد.. شهادة سينمائية تميط اللثام عن الواقع
يحمل المخرج عثمان كريم الحصيلة، ثم يعيد ترتيبها وفق ما يتوافق مع تطبيقاتها على السويد البلد الذي يُكن له العالم تقديرا خاصا لاحترامه حقوق الإنسان، لكنه لا ينتبه في ذات الوقت إلى درجة التمييز العرقي الذي فيه.
وبسبب ذلك جاءت ردود الأفعال على فيلم “بطاقة عِرْق”، لأنه لم يتقاعس عن مهمة كشف الحقائق، ولم يركن إلى منجز ضخم من النتاج السينمائي الذي تناول ظاهرة التمييز العنصري في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة، وآخرها الفيلم المبهر “عبدٌ اثني عشر عاما” (12 Years A Slave) للمخرج “ستيف ماكوين”.
لم يتوان المخرج عثمان كريم عن إعلان شهادته السينمائية، عبر تسجيله واقع ما يعيشه السود في السويد بنظرة موضوعية، تهدف إلى تشخيص الواقع، وتترك مهمة تغييره إلى المجتمع الذي يغذي العنصرية والتمييز، وبسببها يُفضل الأطفال السود الدمية البيضاء على واحدة أخرى تشبههم. أي فظاعة هذه؟ وهل هناك سلوك عفوي أبشع من هذا يمكن تصوره لطفل أسود في مجتمع أبيض، وشديد البياض كما في إسكندنافيا؟
أولى طعنات خناجر العنصرية أصابت السود في طفولتهم، وشهادات المشاركين أجمعت على قسوتها، لأنها كانت مبكرة ولئيمة في آن واحد، فقد لعبت على البراءة بينما كانت تخبئ في الحقيقة داخلها سما، أفرزه المجتمع وأطعمه لأطفاله، وبامتلاكه كسلاح تعلموا المعنى الأول للسلطة والتحكم.
ضيوف الفيلم.. خيط مشترك من الأسى العميق
كل ضيوف الفيلم تقريبا بدءا من الموسيقار الأسود والممثلة والعالمة والطالب والباحث والطبيب؛ أدركوا بعد حين كيف كان يَستغل الطلاب البيض قوة اللون لاستغلالهم وإيذائهم. كلهم سمعوا نفس الكلمات: أنت أسود، لن تلعب معنا. أو لماذا أنت أسود؟ شهادات مؤلمة تؤذي القلب، وتضفي عليك جوا من الحزن العميق، وأنت تسمع الأحداث التي مر بها هؤلاء.
وثمة خيط مشترك من الأسى في كل القصص على اختلافها، وكأن شخصا واحدا يسردها. تُرى من كان يلقن الصغار هذه الدروس، ومن يعلمهم السلوك العنصري المبطن والصارخ في أحيان قليلة؟ وأي قوة خفية وشريرة تلك التي تسمح للأسود أن يقبل على نفسه أن ينادى بكنية لونه لا باسمه؟
يأخذ الوثائقي الإشكالي والمُستفز وقتا طويلا لتعريف كلمة “نيغر” (Nigger) ومعناها القاموسي “الزنجي”، وعبر ما يسرده الشهود ستتبيّن الكيفية التي يستخدم بها السويديون الكلمة، وكيف يضمنونها معنى سلبيا، رغم عدم وجودها في قاموسهم الأصلي، إنما دخلت عليه ضمن موجات الثقافة العنصرية المستترة، فصارت تعني -حين تضاف إلى اسم آخر- معاني شديدة السوء، وتحمل مضامين عنصرية، لدرجة أن مدلولاتها الاشتقاقية أصبحت أغنى بكثير من معناها اللفظي بمئات المرات.
“الهيكلية العنصرية”.. بذرة فاسدة زرعها الإعلام والسينما
يدخل الوثائقي إلى دَور وسائل الاعلام التي ترفع دوما من شأن الأبيض وتقلل من قيمة الأسود بين أسطر مقالاتها وعناوين أخبارها، كما يراجع تاريخ الصورة المتحركة، ويدقق في تأثيرات كتب وأفلام مثل: “تين تين في أفريقيا” وبعض أفلام ديزني القديمة، وقوة تأثيرها في ترسيخ بناء اجتماعي عنصري.

ويطلق على هذا البناء الاجتماعي العنصري تسمية “الهيكلية العنصرية”، وهي تقسم إلى نوعين؛ عنصرية واعية وأخرى غير واعية، وهذه أخطر لأنها لا تضع مُرتكبها موضع الجاني والخاطئ، بل تعامل سلوكه بعادية، وتصفه بسهولة بأنه غير مقصود، ومنه عانى الكثير من الشهود.
وتُقَسم الشهادات نفسها دون تعمد على مراحل عدة، وأكثرها ظهورا مراحل الدراسة ووفقها يتقرر مصير مستقبل الأسمر، فإما أن يقاوم الضغوطات النفسية أو أن ينسحب معزولا.
“أنا أسود، ولا أحد يريد اللعب معي”.. جراح الطفولة
يقدم المشاركون في الفيلم برصانة وهدوء لافت شهاداتهم، فلقد حُرموا كثيرا من اللعب مع أقرانهم الطلبة، والمؤسف أن لا أحد كان ينتبه لهذه العزلة، حتى أن الأهل في الغالب ما كانوا يفهمونها، وفي أحسن الأحوال إذا تذمر الطالب أو أهله منها، يقابلون بنوع من الصد ويُتهمون بأنهم حساسون فوق اللزوم، أو أنهم “يتدللون” وكأن الصحيح -على وصف أحدهم- أن على المضطهد بدلا من الاعتراض أن يعلن فرحته بعزلته وبإهانته، ويقفز مسرورا ويصرخ: أنا أسود، ولا أحد يريد اللعب معي، ولا أحد يريد سماع شكواي، يا للسعادة.

بهذه السخرية كان يواجه الطلاب السود أحيانا الضغط الموجه ضدهم وربما سيكون سلاحهم في المستقبل، وفي كل أحاديث الشهود تجد هذه النبرة الساخرة ذات الطعم المر، ومعها دوما ثمة دمعة تتجمع على مشارف الجفون، تشي بمرارة الذكريات التي تولدها العنصرية، ناهيك عن الأخطار التي تهدد حياتهم.
في رواية لمبرمج إداري في الجامعة يسرد كيف شارفت حياة عائلته على النهاية، لأنه ذات يوم قدم شكوى رسمية على مجموعة طلاب جامعيين أقاموا في إحدى الكليات حفلة تنكرية، بمناسبة ذكرى قومية سويدية، وقد قدموا خلالها مشهدا حيا صوَّر تجارا بيضا يبيعون عبيدا أفارقة. لم يعترض أحد من الطلاب السويديين عليه، لكنه وجد نفسه ملزما بتقديم شكواه.
عنصرية التفاصيل الصغيرة.. بقايا من إرث الاستعمار السويدي
هذه الحادثة كلفته الكثير، وحين يتذكرها يود لو أنه لم يأت إلى هذا البلد ولم يعمل فيه، لكن المفيد فيها أن روايته قد فتحت بابا استغله بدهاء صانعُ الوثائقي، ليعود من خلالها إلى تاريخ مسكوت عنه، يتعلق بسلوك المستعمرين السويديين العنصري في المناطق القليلة التي سيطروا عليها في القرن التاسع عشر، ومن بينها جزيرة “سانت بارثيليمي” التي مارسوا فيها أفعالا شنيعة لا تقل شناعة عن تلك التي كانت تمارسها دول كبيرة مثل فرنسا وبريطانيا.

أهمية فيلم “بطاقة عِرْق” أنه يحفز على النقاش، ويطرح أسئلة غير مجاب عليها، ويقدم منظورا إشكاليا يريد وضع كل درجات العنصرية والتمييز العرقي في موضع واحد، لأن الخطر -كما في الحالة السويدية- يأتي من أن التركيز يجري دوما على الحالات الأشد تطرفا مثل الأبارتايد، الإبادة البشرية أو العنصرية الأمريكية، بينما تهمل الحالات الصغيرة، فيضيع وقتها حق المضطهدين منها.
وهذا ما لا يجوز السماح به حسب ما أراد الفيلم قوله، وقد انتهى بمشهد يظهر الشهود فيه، وكلهم يتكلمون في وقت واحد، فتتداخل كلماتهم لتشكل كلها في النهاية شهادة واحدة على العنصرية والتمييز ضد السُود في السويد، وهي في جوهرها لا تختلف عن غيرها من العنصريات.