فيلمان في ذاكرة السينما: الدفاع عن المباديء
أمير العمري
شاءت الصدفة وحدها أن أعيد مشاهدة فيلمين من كلاسيكيات السينما الأمريكية على يومين متتاليين دون أن أنتبه في البداية، إلى أن الفيلمين، هما في الحقيقة لمخرج واحد، هو فريد زينمان Fred Zinnemann . إلا أن كون زينمان مخرج الفيلمين ليس هو ما جعلني أتوقف أمامهما، بل بسبب ذلك التشابه الكبير فيما بينهما في المضمون والجوهر بل ومواقف الشخصيات، مع الاختلاف الواضح في الأسلوب، ربما بحكم اختلاف الفترة التاريخية التي تدور خلالها الأحداث في كل منهما.

الفيلمان هما “قيظ الظهيرة” High Noon من عام 1952، و”رجل لكل العصور” A Man for All Seasons من عام 1966. وكلاهما حصلا على عدد من جوائز الأوسكار الرئيسية في زمانه. ولكن بينما اختلفت الآراء حول الفيلم الأول ولاتزال منقسمة حتى يومنا هذا (من التحفظ أو حتى الرفض، إلى الاحتفاء)، كان هناك إجماع مستحق على براعة المعالجة في الفيلم الثاني رغم أنه يستند إلى نص مسرحي من تأليف روبرت بولت (قام هو نفسه بكتابة السيناريو للفيلم، وهو أيضا كاتب السيناريو لفيلم “لورنس العرب”).
من الأقوال المأثورة للسياسي البريطاني العظيم توني بن، الذي رحل مؤخرا عن عالمنا، قوله “من الممكن أن نموت من أجل العقيدة، لكننا من الممكن أن تقتل من أجل الدفاع عن المباديء”. ولعل هذا القول ينطبق أفضل ما يكون، على موقف البطل الفردي الوحيد في كلا الفيلمين.
قيظ الظهيرة
في “قيظ الظهيرة” الذي تدور أحداثه في 1870، نحن أمام رجل هو مأمور الشرطة (المارشال) “ويل كين” (جاري كوبر)، تقاعد للتو واللحظة عن العمل في تلك البلدة من بلدات الغرب الأمريكي الخشن، ونشاهده في المشهد الأول من الفيلم وهو يحتفل بزواجه من السيدة “آمي” (جريس كيلي).. تلك المرأة التي تنبذ العنف تماما، بعد تجربتها الشخصية التي سنطلع عليها في وقت لاحق من الفيلم لنعرف أنها فقدت كلا من شقيقها ووالدها وكانا يدافعان عن تأكيد سيادة القانون. الآن أصبحت مرتبطة برجل أنهى عمله في الشرطة، لكنه يرفض المضي قدما في مشروعه المستقبلي معها والرحيل عن البلدة لبدء حياة جديدة في مدينة أخرى. والسبب أن المجرم الذي ظل يروع البلدة لسنوات، والذي قبض عليه كين وكان السبب في دخوله السجن، غادر السجن الآن وهو في طريقه بالقطار الى البلدة للانتقام من كين، ينتظره ثلاثة من أفراد عصابته في محطة القطار.

ماذا يمكن لكين أن يفعل أمام أربعة من الأشقياء العتاة بمفرده؟ يتخلى عنه مساعده الذي يطمع في أن يحل محله لكنه يرفض تزكيته، وفي الوقت نفسه، يشك مساعده الشاب الطموح، في أن “كين” تراجع عن خطته الأصلية لمغادرة البلدة لكي يبقى بجوار امرأة مكسيكية حسناء تمتلك فندق البلدة، كانت في السابق عشيقته. ويتخلى جميع أهل البلدة عن الوقوف مع “كين” ويؤثرون السلامة. ويفشل “كين” في إقناع معلمه ومثله الأعلى، بالوقوف الى جواره في مواجهة الأشرار بعد أن أيقن العجوز الآن أنه أضاع حياته هباء منثورا ولم يجن شيئا أو يغير شيئا من الواقع كما يقول لكين!
لكن “كين” يصر على التصدي ولو بمفرده لهؤلاء الأشقياء، ويتمكن في النهاية، بمساعدة زوجته التي تقرر في اللحظة الأخيرة مساندته مهما كلف الأمر، من الانتصار على عصابة الاشرار.
إن قضية “ويل كين” قضية مبدأ.. قضية وجود بالمعنى العميق للكلمة، ليس ذلك الوجود الحياتي المباشر أي البقاء على قيد الحياة بأي ثمن، بل قضية وجود بمعنى أن الرجال مواقف، وأن من يتخلى عن مبادئه وعن دفاعه عما يعتقد أنه الحق والعدل، لا يصبح رجلا بالمعنى الإنساني للكلمة وليس بالمعنى الذكوري (الذي يتعصب للبطل الذكر في احتفاء بفكرة “البطولة” الذكورية أو تكريسا لـ”معنى أن تكون رجلا”، كما قال بعض النقاد الرافضين للفيلم وقت ظهوره، ورغم اعلائه الواضح لدور المرأة!).
من حيث البناء يدور الفيلم في نفس الزمن الحقيقي للحدث، أي في نحو 85 دقيقة، منذ وصول الأشقياء الثلاثة الى محطة القطارات، إلى انتصار كين على العصابة في النهاية. والحقيقة أن الفيلم كله مبنى على مناقضة الصورة النمطية السائدة في أفلام “الويسترن” التقليدية، بدءا من تصوير البطل متقدما في العمر، مترددا، عاجزا عن استخدام القوة في مواجهة مساعده عندما يعتدي عليه، ولولا تدخل زوجته الى جواره في النهاية لقضى نحبه، ثم تصويره منبوذا من أهل البلدة، ليس لأنه نموذج كريه أو فاسد، بل لأنه بدلا من أن يرحل ويترك الأمور تسير كما اعتادوا، يصر على البقاء لخوض معركته ضد غريمه العائد للانتقام، وبالتالي يكشف موقفه هذا ضعفهم وجبنهم وعجزهم عن الدفاع عن بلدتهم، ويعري تخاذلهم ويفضحه. وحتى الرجل الذي يقف بجواره داخل الكنيسة في البداية ويدعو أهل البلدة للانضمام إليه، ينتهي الى تحية وتقدير موقفه الشجاع، لكنه يدينه عمليا ويطالبه بالرحيل عن البلدة، بدعوى أنه بموقفه هذا سيتسبب في سقوط قتلى، وانه بالتالي سيكون أكثر ضررا.

عن اللغة السينمائية
من ناحية الحبكة الفنية ليس هناك شيئا يحدث في هذا الفيلم بالمعنى المتعارف عليه، أي ليست هناك “حبكة” تتصاعد فيها الأحداث رأسيا، لكن “البطل” يقضى معظم الوقت، في البحث عمن يقف الى جواره في التصدي للعصبة الشريرة، ولكن المخرج زينمان يخلق من تلك “الحالة” وذلك الموقف المصيري الوجودي سيفمونية بصرية رائعة تسيطر على المشاعر والأبصار. أنظر مثلا الى ذلك المشهد الذي يبدأ بكين وهو يجلس لكتابة وصيته، ثم يتطلع الى الساعة وهي تقترب من موعد وصول القطار في الثانية عشرة تماما، ومع دقات الساعة يتم الانتقال من لقطة إلى أخرى، فنرى لقطة لمحطة القطار والرجال الثلاثة ينتظرون، ثم لقطة لمجموعة الرجال داخل حانة البلدة، ثم لقطة للطريق الخالي تماما في البلدة، ثم أولئك المتجمعين في الكنيسة، ثم ننتقل الى محطة القطار حيث نسمع صوت صفير القطار ونشاهد الدخان المتصاعد منه في مؤخرة الصورة، وهو في طريقه إلى المحطة.
هذا التتابع البديع عن طريق المونتاج، وتلك اللقطات التي تتميز بالاضاءة الساطعة والسماء الصافية من السحب التي توحي بالقيظ والحرارة الملتهبة، أصبحا الآن من العلامات المميزة في خلق تكوينات وإيقاع يثري القصة ويثير مشاعر المتفرج ويعده للمواجهة النهائية، بعيدا عن تلك الصورة النمطية المألوفة في “الويسترن”، بل إننا في لحظة ما نشعر بتردد البطل وخوفه ووجله من المواجهة.. إنه ليس بطلا من أبطال الويسترن، بل إنسان، طبيعي، يخاف الموت ويخشاه. وعندما يوجه له مساعده سؤالا مباشرا: هل تشعر بالخوف، لا يستبعد الفكرة بسخرية كما يفعل مثلا البطل- في شخصية جون واين في “الويستترن” بل يجيبه ببساطة “نعم”!

وفي نهاية الفيلم بعد ان تنتهي المواجهة، يلقي بنجمة المارشال أرضا، وهي اللقطة التي أثارت غضب جون واين (المدافع بشدة عن البطولة الأمريكية التقليدية وكان مؤيدا للمكارثية) ويقال إنه صنع بعد ذلك مباشرة، مع المخرج هاوارد هوكس فيلم ريو برافو” (1959) ردا على ذلك البطل المتخاذل الذي يلقي بـ”نجمة الشرف” على الأرض!
رجل لكل العصور
في “رجل لكل العصور”، الذي تدور أحداثه في خمسنيات القرن الخامس عشر، يرفض السير توماس مور- قاضي القضاة ومستشار الملك- الانحناء أمام رغبة الملك هنري الثامن، ومباركة تطليق زوجته الأولى ثم عقد قرانه على عشيقته “آن بولين”، كما يرفض انشقاق الكنيسة الكاثوليكية عن روما، وتنصيب هنري الثامن رئيسا لكنيسة انجلترا فيما إعتبره مخالفة لروح ونصوص العهد والكتاب والقانون الدستوري الذي وضعه وصادق عليه الملك نفسه فيما سبق، متشبثا بفكرة أننا إذا ما خالفنا ما أقسمنا على احترامه فسنفقد كل قيمة ويصبح كل شيء مباحا (إذا ما استعرنا مقولة ديستويسفكي العظيم في “الإخوة كارامازوف”).
هنا أيضا نحن أمام بطل وحيد يسبب موقفه العذاب والحيرة والاضطراب لزوجته (تماما مثل موقف ويل كين)، ويرفض أقرب أصدقائه (اللورد نورفولك مثلا) مساندته أو الدفاع عنه- رغم تفهمه واحترامه لموقف مور- أمام سعي كرومويل، السياسي الطموح الذي كان نجمه يصعد بقوة في ذلك الوقت، للإيقاع به، والادعاء كذبا عليه، ومن ثم تقديمه للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى. وكما خان مساعد المارشال في “قيظ الظهيرة” رئيسه “كين” طمعا في تحقيق طموحه الشخصي، يخون “ريتشارد ريتش” تلميذ توماس مور، معلمه ومثله الأعلى، بحثا عن منصب صغير يسنده إليه كرومويل مقابل استخدامه ضد مور وجعله شاهدا ضده زورا وبهتانا أمام المحكمة التي تقضي عليه بالموت بقطع رأسه. إن شخصية التلميذ أو التابع الخائن في كلا الفيلمين، تدرك جيدا أن “البطل الخاسر” على حق، وأنه يدافع عن الحقيقة، لكن هذا الادراك لا يغير شيئا من موقفها. إنه الضعف الإنساني، والتناقض البشري بين من يتمسك بما يؤمن به، ومن يؤثر الوصول إلى ما ينشده بأي ثمن.

لاشك أن فريد زينمان كان وقت اخراج “قيظ الظهيرة” متأثرا بما تشهده أمريكا، وهوليوود تحديدا، من حملة قمع للحريات باسم مكافحة خطر الشيوعية ابان الحملة المكارثية الشهيرة، خصوصا أن كارل فورمان، كاتب سيناريو الفيلم، تعرض في ذلك الوقت للاستجواب أمام لجنة مكارثي وواجه الكثير من المصاعب في العمل واضطر إلى مغادرة أمريكا إلى لندن. ولاشك أن فكرة الدفاع عن المبدأ كانت- على نحو ما- ردا على تلك الحملة المسعورة لتكميم الأفواه وتقييد حرية الرأي.
وفي كلا الفيلمين تتراجع المرأة- الزوجة، عن موقفها الحانق على زوجها، وتقرر الوقوف معه بعد أن تدرك أنه على حق، وان الحياة لا تستحق أن تعاش إذا ما تخلى المرء عن المباديء وقنع بالبقاء في الظل، وجبن عن مواجهة قوى البطش والظلم، سوءا باسم التمسك باللاعنف، أو باسم الانصياع للأمر الواقع الذي لن يمكنك تغييره على أي حال!
يقول سير توماس مور في “رجل لكل العصور” “من أجل أن نحافظ على كوننا ننتمي للإنسان، يجب أن نواجه بقوة، حتى لو كنا نخاطر بأن نصبح أبطالا”. إن بطل “قيظ الطهيرة” ينتصر في النهاية لكن لا شيء يبدو أنه سيتغير في تلك البلدة. لقد حافظ فقط على إنسانيته. أما بطل “رجل لكل العصور” فهو يفقد حياته دفاعا عن المبدأ، لكن بلاده تتجه بعد ذلك الى تبني موقف خصمه هنري الثامن، لكن دفاعه الصلب عن المبدأ يظل قانونا راسخا حتى يومنا هذا، فالسياسي يأتي ويذهب، أما صاحب الفكر، فيبقى فكره في الأرض!