مظالم الأكراد من قلب إسطنبول

محمد موسى

في ظاهرة لافتة،عرضت وضمن الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان إسطنبول الدولي (5-20 من شهر أبريل)، مجموعة كبيرة من الأفلام التي تقدم قصصاً لأكراد أتراك يواجهون تركات الماضي الجمعي وتحديات الحياة المعاصرة، والمتأتية في معظمها من وضعهم كأقلية تخوض منذ عقود نضال علني مسلح وآخر مخفي وبدون عنف للحصول على مطالبها، بمزيد من الحريات ولتحسين وضعها السياسي والإجتماعي. يُعد هذا الحضور الكردي في أفلام سينمائية من إنتاج تركي والتي عرضت عبر منصة أكبر مهرجان سينمائي تركي، أمراً غير مسبوقاً في الحياة الفنيّة في تركيا، فلعقود كان الشأن الكردي العام، بما يستدعيه من أسئلة عن سجل الدولة التركية في التعامل مع الأكراد، من المحظورات في السينما التركية.

في فيلم “الام” للمخرج أبوبيكير أوغور والذي عرض ضمن تظاهرة السينما التركية في مهرجان إسطنبول، يوجه المخرج الانتباه إلى قسوة وفوضوية الإجراءات الرسمية التركية بحق الأكراد (يستند الفيلم على وقائع حقيقية)، فالأم التي يشير إليها عنوان الفيلم، هي سيدة في بداية عقدها السابع يوجه لها اتهام بدعم حزب كردي معارض (لا يشير الفيلم إلى هوية الحزب). هذه السيدة الكردية الريفية التي فقدت أحد أبنائها للصراع الدائر في تركيا (اختفى بعد أن انتمى لحركة كردية مسلحة)، قامت بمساعدة عمال بناء أكراد، يعملون قريبا من بيتها، بالطبخ لهم أحياناً. بعد أن تبين أن العمال ينتمون لحركة كردية مُسلحة محظورة، تم القبض على السيدة العجوز وقدمت للمحاكمة.

يرافق الفيلم، الذي نفذ بأسلوب الدراما التسجيلية واستعان بممثلين غير محترفين. ابن السيدة وحفيدها وهم يحاولون أن يجدوا طريقهم وسط الكارثة التي حلت بهم. يفرد الفيلم مساحة كبيرة للتفاصيل الصغيرة للعائلة وهي تواجه  تبعات الأزمة، مثل التوجه الى المحكمة التي ستعقد في مدينة بعيدة، ومن سيرافق الأم. هناك مشاهدة مؤثرة كثيراً عن التقارب الذي يحصل بين الابن والحفيد  بسبب الأزمة، فعندما يجمعهما فندق واحد بانتظار المحكمة، يرغب الأب أن يشارك ابنه بسيجارة. إنها المرة الأولى التي يدخنان فيها معا. هي اعتراف عاطفي مكتوم بنضوج الابن وأيضاً على ضعف الأب وحاجته إلى ابنه. الفيلم يتجه للعاطفية المبالغ فيها في نصفه الآخر، وخاصة  بعد أن تقرر المحكمة  تقييد حركة الأم، ولحين انتظار قرار المحكمة، بوضع جهاز برجلها يُسجل تحركاتها.

يبدو فيلم “الأم” وكأنه يخشى الغوص عميقاً في تعقيد التاريخ الكردي واكتفى بالقصة المؤثرة التي قدمها. فهو يتجنب تقديم أي خلفيات تاريخية للشخصيات التي قدمها. صحيح أن أزمة العائلة التي يقدمها الفيلم جسيمة، وتقديم الأم إلى محاكمة هو لذاته عملاً ظالماً، لكن هذا قُدم معزولاً عن السياقات التاريخية والاجتماعية. حتى بدا إن فعل الابن الأصغر بالانضمام إلى حركة مسلحة، هو الذي قاد إلى الأزمات والأحزان الحالية التي تمر بها العائلة، رغم أنه كان حلقة في سلسلة متواصلة من الأحداث التاريخية. هذا الأمر جعل الفيلم يقارب مشاهديه مراهناً على ما يثيره من عواطف تتعلق بوضع “الأم”، وليس عن طريق إثارة الجدل، الذي يطلقه اعتقال السيدة المُسنة.

يذهب الفيلم الروائي الطويل “تعال إلى صوتي” للمخرج حسين كارابي، وعرض أيضا ضمن تظاهرة السينما التركية، إلى حدود أبعد لجهة  نقده للحياة التي يعيشها أكراد كُثر في تركيا. يقدم الفيلم، الذي نفذ باحترافية كبيرة وبدا واعياً بأهمية الترميز الذي لا يجب أن يطغى على السينما، رحلة سيدة متقدمة في العمر مع حفيدتها في محاولة لإطلاق سراح ابنها (والد الطفلة ) الذي اعتقل من قبل الجيش التركي على خلفية حيازته لسلاح. والذي لم يعثر عليه أفراد الجيش عندما فتشوا منزل الرجل، ليكون شرط إطلاق سراح هذا الأخير هو تقديم  قطعه سلاح للجيش.

يحقق فيلم الطريق هذا هدفه بالكامل، عندما يجعل غاية رحلة أبطاله الأكراد هو الحصول على سلاح لإطلاق سراح الأب، في بلد يدعي أنه يريد أن ينبذ السلاح. هناك مثلاً مشهد شديد الذكاء للطفلة وهي تكتب أمنيتها وتعلقها على شجرة خاصة، يقوم أبناء المنطقة بتعليق أمنياتهم على أغصانها. ترسم الفتاة الصغيرة مسدساً صغيراً وتربطه على الشجرة. هذا بالضبط كل ما تتمناه البنت من أجل حرية والدها، لكنه يشير أيضاً إلى عُمق الأزمة في المنطقة، أي عندما يحلم الأطفال بالأسلحة، وعندما تكون هذه الأخيرة هي التي ستجلب السلام!

يُوجه الفيلم، وبدون تشنجات، لكن بلغة رمزية أحياناً وبقسوة أحياناً أخرى، انتقادات عنيفة للسلطة التركية، الأمر الذي يطلق التساؤلات عن التغيير الذي يشهده الفن في تركيا المعاصرة. فالفيلم يقدم الجيش التركي كمؤسسة ينخرها الفساد، لكنه مازال الذراع الاعلى في المناطق الكردية في تركيا. وقائد الوحدة العسكرية التركية الذي يفرض على الأهالي تسليم أسلحة، يقوم ببيعها سراً إلى أحد القادة الأكراد المحليين. والجنود الأتراك يعاملون الأكراد كبلد مُحتل. رغم قوة الفيلم إلا أنه كان سينتفع بتقديم قصص خلفية لشخصياته الرئيسية او الثانوية، مثل مجموعة الرواة العميان المتجولين، والذين يتنقلون بين القرى، مقدمين قصصاً من التراث الكردي في مناسبات اجتماعية عامة.

ومن الأفلام الأخرى التي عرضت ضمن تظاهرة السينما التركية في الدورة الأخيرة لمهرجان إسطنبول السينمائي وتناولت شخصيات كردية أفلام: “كان ياما كان” للمخرج كاظم أوز عن الأكراد الذين يشكلون النسبة الأكبر من عمال الحقول الزراعية في تركيا. فيلم “السقوط من الجنة” للمخرج فريت كراهان، عن أختين يواجهن صعوبات كبيرة في تقبل مقتل أخيهن التركي، في النزاع المتواصل بين الجيش التركي والحركات المسلحة الكردية. فعندما تبدأ إحدى الأختين في العمل مع مجموعة من العمال الأكراد في مدينة إسطنبول تتيقن إنها مازالت بعيدة عن نسيان ما حدث، وإنها تواجه صعوبة كبيرة في فصل الصراع المسلح عن التعاملات الإنسانية اليومية.

ومن الأفلام الوثائقية التي قدمت ضمن التظاهرة ذاتها: فيلم “موسى بدون الأحمر” للمخرج أيدين اوراك عن الناشط والكاتب الكردي موسى انتير والذي اغتيل في عام 1992. الفيلم الوثائقي “أمنيتي السلام” للمخرجة كيفيسيم اكاي، الذي يقدم شهادات ثلاث أمهات من مدينة ديار بكر، وصعوبة العيش في مجتمع تهمين عليه أجواء التوتر منذ أكثر من ثلاثين عاماً. فيلم”الحزن الذي لانهاية له” للمخرج زينل كوسر، عن المآساة المتواصلة لعوائل مفقودين أكراد، بعضهم تم العثور عليه مؤخراً في مقابر جماعية.


إعلان