الثورة السورية من شيكاغو الأمريكية

محمد موسى

” كُل عملي الثوري يحدث  هنا”، تُشير الشابة السورية آلاء بساتنة الى جهاز “اللاب توب” الخاص بها. لكنها تعود وتستطرد: ” أستعمل الهاتف المحمول أحياناً”. آلاء، التي يقدم قصتها الفيلم التسجيلي الأمريكي “فتاة شيكاغو”، هي واحدة من النشطاء السوريين عبر شبكة الأنترنيت، والذين خاضوا حربهم الخاصة، لإيصال ما يحدث في بلدهم منذ ثلاثة أعوام الى العالم. فالجرائم والأنفس التي أُزهقت في الصراع هناك، كانت ستذهب هباءً لولا جهد هؤلاء، وحسب مُخْتَصّ أمريكي بالأعلام الحديث تحدث للفيلم التسجيلي.

ملصق الفيلم

عندما يصل الفيلم التسجيلي الى آلاء بساتنة، والتي تسكن مع أهلها منذ سنوات طويلة في مدينة شيكاغو الأمريكية، بدت الفتاة السورية المُحجبة والتي تجاوزت العشرين بقليل، وكأنها عاشت حياة طويلة حافلة ومليئة بالمرارات.  هذا رغم إنه لم يمضي عامين منذ أن تغيرت حياة الفتاة السورية، من طالبة جامعية، كانت تعيش حياة مليئة بالأحلام والإنشغالات اليومية الطبيعية، الى ناشطة ألكترونية دخلت في لَجَّة الصراع المسلح القاسيّ في بلدها.
تشرح آلاء بساتنة للفيلم، كيف بدأت خطواتها الأولى في التدوين الألكتروني للثورة السورية، بصفحة صغيرة على موقع التواصل الإجتماعي (الفيسبوك)، تقوم بنقل أخبار الثورة السورية من عدة مصادر إخبارية. سيتوسع نشاط الشابة السورية، لتتحول الى مديرة عمليات تربط الداخل السوري بالعالم، ومنسقة لنشاطات تحريضية على الأرض السورية، إضافة الى عشرات المهام الصغيرة مثل متابعة صفحات ناشطين سوريين داخل سوريا على الفيسبوك، وإغلاقها، حال وصول خبر إلقاء القبض على أصحابها من قبل السلطات السورية، خوفا من تعقب من يرد أسمه في تلك الصفحات، بل إن الفيلم التسجيلي يرافق الفتاة السورية وهي تذهب لمحل مُتخصص بأجهزة التنصت والكاميرات السريّة، فهي تُرتب أيضاً إرسال هذه الأجهزة المُعقدة الى سوريا، للتصوير السريّ في المناطق التي لازالت تخضع لسلطة الحكومة السورية.
الى جانب قصة ” آلاء بساتنة “، سيمّر الفيلم على سيّر سوريين شباب خاضوا غمار الحرب والعنف الدائر في بلدهم، منهم باسل شحاته، الشاب الذي ترك دراسته السينمائية في الولايات المتحدة الامريكية وعاد الى بلده فور إنطلاق الثورة هناك. سيكون لطالب السينما هذا دور كبير في تسجيل لحظات مُرعبة من العنف السوري، وسيذهب هو الآخر ضحية للعنف ذاك، اذ ستصيبه قنبلة في مدينة حمص أثناء تصويره هناك. وهناك أيضا “عمر”، طالب الهندسة المعمارية، الذي قام بتصوير عشرات الأفلام قبل مقتله هو الآخر في ريف دمشق. أما “أوس”، طبيب الأسنان الذي ترك مهنته وإتجه الى التوثيق الإعلامي، فسيترك الكاميرا ويحمل السلاح، بعد أن طال عمر الثورة ووصل اليه الجزع، لينخرط في العمل العسكري، حيث يظهر في مشاهد قوية برمزيتها وهو يحمل سلاح الجيش السوري الحرّ.
بدت الوثيقة التسجيلية والتي أخرجها الأمريكي جو بيسكتيلا، وكأنها تسير في حقل للألغام. فهي من جهة رغبت في تقديم الحرب الغير معروفة التي تجري لإيصال ما يحدث في سوريا من مآسي الى العالم، ومن الجهة الأخرى لا ترغب بتعريض حياة الناشطين في سوريا للخطر بعرض صور وجوههم، فغطت صور وجوه  معظم الذين مازالوا يعملون في سوريا. هذا الأمر إثر بدوره على تتابع المشاهد والقصص. فالفيلم قدم مثلاً مشاهد مُرعبة بحق لجولة لناشطين في مدينة سورية مُدمرة. لكن بدت خارج سياق الوثيقة التسجيلية، خاصة إن الفيلم غطى وجوه الذين ظهروا في تلك المشاهد، ولم يكن من الواضح تماماً اذا كانوا من ضمن المتعاونين مع شخصية الفيلم الرئيسية.

لم تكن شهادة آلاء بساتنة نفسها تحمل قدر كبير من العاطفية، ربما لأنها سجلت في فترة زمنية قصيرة ولم ترافق الشابة السورية في يوميات العامين الاخيرين. جاءت الشهادة على جانب كبير من التقريرية، والتي تخللتها أحيانا لقاءات مع خبراء أمريكيين تحدثوا عن الثورة السورية، بلغة تتوجه الى المشاهد الأمريكي الذي لا يعرف الكثير عما يجري هناك. سيتخلل شهادة آلاء بساتنة كثير من التفاصيل عن عملها الذي تطور سريعاً، وعن طبيعة الحرب الإعلامية الألكترونية التي شاركت بها، ودفعت الكثير من أجلها. فعندما ينكشف أمر تعاونها مع ناشط سوري، ألقيّ القبض عليه في سنة الثورة الأولى، ستتلقى رسائل تهديد بالقتل من مجهولين.
ليست آلاء بساتنة هي الوحيدة التي تدير معركة إعلام الثورة السورية، فهناك كثيرين غيرها، بعضهم صار مرجعا لوسائل الأعلام التقليدية. لكن قصة هذه الفتاة السورية تستحق أن يُخصص لها فيلم كامل. هي تمثل جيل من النساء العربيات القويات القادرات على فعل الكثير لمجتمعاتهم وأوطانهم عندما تتاح لهن الفرص. ورغم انه كان بالإمكان تقديم عمل أكثر عاطفية عن حكاية آلاء بساتنة ، الا أن الفيلم بمجمله يقدم شهادة مهمة كثيراً، عن الذين مَرّت عبر كمبيوتراتهم الشخصية، الصور والفيديوات السورية ، لينشروها بعد أعادوا إنتاج بعضها، ولتثير بعد إنتشارها كل ذلك الجزع والصدمة في العالم. يرافق الفيلم في جزئه الأخير الفتاة السورية في رحلتها الأولى الى بلدها، الى  الجزء الخارج عن سلطة الحكومة السورية، في مهمة وصفتها بالإنسانية (توزيع أدوية)، لكنها أوضحت بأنها ترغب أيضاً بالإقتراب من المكان الذي غادرته كطفله، وشهد في العامين الماضين الحالكين نهايات بعض أصدقائها الأفتراضيين، والذين ستبكيهم في تظاهرة جرت في مدينتها الأمريكية في مشهد إرشيفي خَيّمَ عليه الحزن الشديد.


إعلان