جورج نصر: حمل لبنان للعالمية قبل أن يعرفها الآخرون

بيروت- الجزيرة الوثائقية

من الوجوه البارزة التي أنتجها تطور السينما مطلع القرن العشرين، ووفودها إلى لبنان مبكرا، أي في عشرينات القرن الماضي، المخرج جورج نصر الذي ادخل لبنان إلى العالمية للمرة الأولى أواسط الخمسينات، ولربما عرٌف لبنان بالعالمية يوم لم يكن أحد فيه يهتم بها، أو يدرك أهميتها.

ويعتبر وصول نصر، حاملا بلده معه إلى مهرجان كان 1957، صدفة لأن أحدا لم يخطط لوصوله إلى “كان”، ولم يكن كثيرون يعرفون ب”كان” أو يهتمون بها على المستوى اللبناني. لكنها ليست صدفة لو علمنا بالتطور الذي بلغته السينما الأجنبية في لبنان في النصف الأول من القرن العشرين على المستوى التجاري، حيث انتشرت دور السينما في المدن، ووصلت إلى الريف في حالات خاصة

جورج نصر

ولأن انتشار السينما، واستقبال مئات الأفلام سنويا، ليس صدفة، لذلك يمكن اعتبار بروز شخصيات تهتم بالسينما، كجورج نصر، هو نتاج لذلك الانتشار والتطور، وليس مجرد صدفة.

وقد كان للمخرج نصر حكايته الخاصة، وأهمية مميزة لعمله، لم يدركها المهتمون بالشأن الثقافي والفني والسينمائي إلا مؤخرا، فبرز دوره، وما أنجزه سينمائيا، وإن كان بعدد محدود من الأعمال السينمائية. وكانت أولى أعماله فيلم “إلى اين؟” الذي أدخل لبنان للمرة الأولى إلى مهرجان “كان”.

و”إلى أين؟” فيلم بالأسود والأبيض، كشف النقاب عنه مجددا بعد أن رفضت دور السينما عرضه في الخمسينات والستينات تحت تأثير ضغوطات سينمائية منافسة، على ما يعتقد نصر ذاكرا أن “أحد أصحاب الدور، الذي كان يستورد الأفلام المصرية ويعرضها في داره، أبلغه لاحقا أن هناك من ضغط عليه منعا لعرض الفيلم”.

وبدأ عرض الفيلم في الجامعات، وأماكن خاصة، ليس من باب العمل السينمائي التجاري، بل من باب الاطلاع على منجزات فنية، ووجوه برعت في مجال السينما.

تلا “إلى أين؟” فيلمان آخران لنصر هما: “الغريب الصغير” 1962، و”المطلوب رجل واحد” 1975، كما وضع نصر عشرات الفلام الوثائقية المختلفة الموضوعات، وأمضى أكثر من 23 سنة مؤخرا محاضرا في عدد من المعاهد والجامعات عن السينما، ولا يزال.

البداية   
بدأ نصر الإطلاع على السينما بينما كان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره.  وهو اليوم على أبواب التسعين (مواليد 1927)، يتخذ من منزله مقرا ينطلق منه لمتابعة عمله الفني، ويجعل من جدرانه معرضا لبوستراته، وللشهادات والجوائز التي نالها، ومن خزانته أرشيفا لمنجزات بقي كثير منها طي الكتمان.

يتحدث ل”الجزيرة دوك” قائلا: “أحببت السينما، وارتدت ثمانية أفلام بالأسبوع، فيلما كل يوم، وفيلمين ليوم الأحد. كنت أشتغل صيفا، وفي الشتاء أغطي نفقة السينما من خرجيتي”.

ملصق الغريب الصغير

في عصره، كانت السينما قد انتشرت، ووصلت بقوة إلى طرابلس اللبنانية مسقط رأسه، ويكفي أن يكون نصر قد سكن في مبنى ضم ثلاثة دور سينما هي: بالاس ورومانس وأوديون، عدا عن العديد من الدور الأخرى في الأحياء المجاورة، لمعرفة الجو السينمائي الذي عاش فيه. 

جورج نصر يقول: تولعت بالسينما منذ أن كانت الأفلام صامتة. وكانت أفلام الكاوبوي رائجة، واعتاد الجمهور على إطلاق تسميات البطل والخائن على شخصيات الفيلم الأساسية، و”إيلان” لشخصيات النساء فيها، ولذلك سميت هذه الأفلام بأفلام “إيلان”.

حضر نصر الأفلام العربية والأجنبية، ومما ساعده على حب السينما أنه درس في إرسالية أجنبية مكنته من إتقان الفرنسية (الفرير)، وما لبث أن سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة دراسته.

يتحدث عن بداية رحلته بقوله: “تعلمت في إرسالية أجنبية وأتقنت الفرنسية، وعند التخرج عملت في “شركة نفط العراق”، ولم أكن أفكر بالتوجه نحو السينما لأنني اعتقدت أنها وحي هابط من السماء. تابعت دراستي لاحقا في الهندسة بالمراسلة مع جامعة شيكاغو الأميركية لسنتين، ثم سافرت لمتابعة الدراسة فيها،  وانتقلت إلى لوس أنجلوس وهناك تابعت دراستي”.

لكن الظروف لعبت دورا في تحول نصر إلى السينما بعد دراسته الهندسة لسنتين. فهو مولع بها، وكان مثاله كبار أمثال غاري كوبر وكلارك غايبل وجيمس ستيوارت، كما يقول، ويروي مصادفة تحوله إلى السينما: “سكنت في غرفة لدى سيدة، وذات مساء اصطحبتني بسيارتها في جولة في المدينة لتعرفني عليها، وتوقفت عند محطة بنزين، سألها صاحب المحطة عني، أخبرته أني طالب بالجامعة، وأرغب بدراسة السينما، فدلني على معهد قريب. دخلت المعهد، لثلاث سنوات حتى حصلت على ال BA، ثم سنة ونصف تمرين في استوديوهات هوليوود”.

وعرض نصر للصعوبات التي رافقت وضع فيلمه الأول، وتأمين التمويل، فالتصوير، وسوى ذلك، ويقول: “ركبنا الفيلم، وساعدتني إحدى الفرنسيات التي عملت في السينما في لبنان، وعندما ذهبت إلى فرنسا، رأيت إعلان مهرجان “كان”، فقامت هذه السيدة بتعريف لجنة “كان” على فيلمي، وقبلته اللجنة وكان ذلك سنة 1957، فكان فيلم “إلى أين؟” أول فيلم يمثل لبنان رسميا في “كان”، وبذلك وضع لبنان على الخارطة السينمائية في العالم”.

فيلماه الباقيان هما “الغريب الصغير” فيه تقنية كبيرة، وموضوعه ولد ترك أهله تحت  ضغط الواقع الاجتماعي، والثاني، “المطلوب رجل واحد” فعالج تمييز المجتمع للمرأة.

يتحدث نصر عن أربعة سيناريوهات وضعها ويحتفظ بها، الأول، “على عيون الناس” نقد لفكرة الثأر (ساعتان)، والثاني، “لا آلهة على الأرض” يتحدث عن أوهام واقعية لدى الناس، لكنهم لا يلبثون أن يعبدوها كالآلهة، والثالث، “مهمة من العالم الآخر”، موضوع بارابسيكولوجي عن الذين يموتون قتلا، ولا يدفنون جيدا، ويعتقد أنهم يعودون إما للانتقام أم للمساعدة، والرابع، “ثلاث رسائل مفتوحة” عن بوسطجي سمين، ومن خلاله تمويل الفتنة بين الناس. والسيناريوهات الأربع تتراوح بين الساعة والنصف والساعتين إلا ربع.

نصر يختم بحسرة: “عروضي تعرض دائما في الجامعات لكن ليس في الصالات. مضى علي 23 سنة في التعليم، لكنني بشوق كبير لأن أضع عيني على منظار كاميرا”.                                                                                                      


إعلان