أزمات أسامة في الولايات المتحدة الأمريكية

محمد موسى

أكثر من ثلاثين عاماً مرت على هجرة عائلة الشهابي العراقية الفلسطينية، موضوعة الفيلم التسجيلي “الأمريكي العربي”، الى الولايات المتحدة الأمريكية. ستتعثر العائلة، الهاربة من جحيم بلدانها الأصلية، في مساعيها لتحقيق نسختها الخاصة من “الحلّم الأمريكي”، بل إن مُعضلات الشرق المستديمة ستطارد العائلة وتُعكر حياتها. أزمات عائلة الشهابي ستصل الى ذروتها التراجيدية عندما إنتهت حياة أحد ابنائها بفعل الأدمان على المخدرات. ابن آخر (المُخرج أسامة الشهابي)، قرر مبكراً إنه سيواجه العالم من حوله بالسينما والسُخرية، فأختار الكاميرا السينمائية ليسجل ما حوله، وأحياناً يوميات من حياته وما يعنيه أن يكون عربياً ومسلماً في الولايات المتحدة الأمريكية في العشرين عاماً الماضية

ملصق الفيلم

يفتتح فيلم “الأمريكي العربي” بمشاهد من مقبرة تقع بين طرق سيارات سريعة. هناك يرقد إبن العائلة، وأخ مخرج الفيلم التسجيلي هذا. تتوزع المعلومات بدون ترتيب منطقي على شاهد القبر. هناك نص ديني باللغة العربية الى جانب معلومات بالإنكليزي. في زاوية القبر السفلية كتب “العراق” بالعربي. وهو البلد الذي ولد فيه الشاب لأب عراقي وام فلسطينية. تتحدث الأم بمرارة عن فقدان إبنها للإدمان. يهمين موضوع البلد الأصلي والبلد الجديد على حديث الأم. تقول إنها كانت تتمنى لو ابنها مات في أحد الحروب التي مرت على العراق، بدل الموت البطيء الذي عاشه لسنوات في أمريكا. يكشف المشهد ذاك تعقيد حياة العائلة، وهو التعقيد الذي سنشهد فصل صغير منه في هذا الفيلم العائلي الشخصي، الذي ينضم الى مجموعة قليلة من الأفلام الذاتية لمخرجين عرب. قوة هذا الفيلم تتركز في طبيعته الحميمية، وعندما رغب بتقديم مُوسع لموضوعة المهاجر العربي المسلم الى الولايات المتحدة الأمريكية فقد جزءاً من خصوصيته، فالفيلم، يكشف ويؤثر أكثر عندما يركز على عائلة المخرج، وحياة المخرج نفسه.

يواصل أسامة الشهابي في فيلمه “الأمريكي العربي”، ما كان قد بدئه في التجارب الفيلمية التي قدمها في مقتبل حياته. أي السخرية مما يجري حوله. فالشاب الذي ولد في العراق لا يفهم كيف يواصل المجتمع والثقافة الأمريكية إستهزائهم الطويل بالعرب وإعادة تقديم الصور النمطية ذاتها. يختار المخرج مشاهد إرشيفية ذكية من أفلام سينمائية أمريكية ومن تغطيات تلفزيونية لموضوعات عربية. منها واحد بليغ في دلالاته يكشف عن الصور النمطية التي يحملها كثير من الأمريكيين عن العرب. فعندما يمنح المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية جون ماكين، الميكرفون لسيدة أمريكية، تهاجم هذه الأخيرة منافسة باراك أوباما، وتصفه ب “مسلم عربي”. ما فعله ماكين هو الذي يثير الحنق، وكان أكثر إساءة بكثير من هجوم السيدة، فهو، وبدل أن يصحح تلك الصورة النمطية المقيتة، ويقول إنه ليس من المعيب أن يكون المرء عربياً او مسلماً، نفى بالمقابل تهمة “العربية” عن أوباما، وأكد أن منافسه هو رجل أمريكي نبيل

ستغير أحداث الحادي عشر من سبتمبر من دينامية العلاقة بين المهاجر العربي المسلم ومجتمعه الأمريكي، ليصبح من الترف بعد تلك الاحداث مواصلة النشاط الصامت لتصحيح بعض الصور النمطية الشائعة عن العرب. تحول الأمريكي العربي الى شخص غير مرغوب و مشكوك به. ينتبه أسامة الشهابي الى تغيير المشهد من حوله. هو لن يعاني، وبسبب الطبقة الإجتماعية الفنية التي ينتمي اليها، من آثار التغييرات بعد الحادي عشر من سبتمبر، لكن حساسية الفنان لديه ستبقيه دائما مع الموضوعة. يحقق المخرج في هويتة ومكوناتها. يذهب مثلا ليقابل زملاء دراسته من الأمريكيين البيض، ويسأل كيف كانت إنطباعاتهم عنه وقتها؟ لكن أسامة الشهابي نفسه سيتحول الى قصة إخبارية محلية قبل أعوام قليله، عندما قام مجموعة من الأمريكيين بضربه بشدة في المدينة الأمريكية الصغيرة التي إنتقل اليها مع زوجته. يكشف المخرج عن ملآبسات الاعتداء العنصري ذاك، دون أن يخفي بعض التفاصيل الحساسة، كالأتهام الذي وجه علناً للمخرج بانه “رَتّبَ” القصة لتكون دعاية لعمله السينمائي، او إعترافه بسكره عندما قابل مجموعة الشباب البيض الذين قاموا بالإعتداء عليه.

يخرج الفيلم من الحدود القصة العائلية والشخصية للمخرج. فيقابل مثلاً فتاة أمريكية من أصول عربية تعرضت لإعتداء جسدي من سيدة أمريكية بسبب الحجاب الذي كانت تضعه على رأسها. كما يقابل عائلة عراقية وصلت قبل سنوات قليلة فقط الى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ستكشف عن مصاعب الحياة في البلد الجديد، والكابوس الذي حملته من البلد الأصلي و الذي مازال يتعقبها. يحافظ أسامة الشهابي على نفسه الساخر المُحبب في مقابلاته تلك. كما ينجح في ربط ما يمِّر به عرب من أمثاله بتاريخه الخاص، وتجاربه في البلد الذي يعيش فيه ويحمل جنسيته.

عرض فيلم “الأمريكي العربي” في الدورة الأخيرة لمهرجان ادفا السينمائي في أمستردام. لم يصل الفيلم الى مهرجانات عربية بَعْدُ. وربما لن يصل، فالجرأة والمكاشفة التي يتضمنها هي غريبة عن طبيعة المجتمعات العربية. يقف أسامة الشهابي بين ثقافتين، وهو لا يخشى أن يقول كل ما في قلبه عن كلا الثقافتين، بدون المحافظة التي تطبع الكثير من الأفلام الشخصية الوثائقية العربية. يكشف المخرج مثلاً إن والدته إقترحت عليه تغيير إسمه عند حصوله على الجنسية الأمريكية، لكنه رفض. لم يجد لذلك داعٍ، رغم التركة الثقيلة التي صار اسم “أسامة” يحملها منذ الحادي عشر من سبتمبر. لكن أسامة الشهابي الذي زار جامع المدينة التي قضى فيها صباه، وقابل إمام الجامع المتنور، سيكشف أيضاً، إنه لا يتبع أي دين الآن. ستتجلى أزمة الهوية عند أسامة، عندما يعود للعراق بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 (أنجز فيلماً عن الرحلة تلك)، ليكتشف وقتها إن البلد الذي طالما حلم به، لا يشبه الصورة المتخلية الضبابية التي كان يحملها عنه، ومن هناك بدأ بالحنين الى بلد الإقامة الحاليّ، وإنه سيعيش، مثل ملايين من المهاجرين من أمثاله، حياته كلها معذباً بين بلدين وثقافتين.


إعلان