“أبو نضارة”.. المأزق البناء

درويش درويش
عندما بدأت مجموعة “أبو نضارة” مشروعها المواظب والمنتظم في تقديم مقاطع فيلمية قصيرة عن الحال في سوريا الثائرة، كانت بذلك تشبه وتحاكي طبيعة ��لحراك الجديد عينه. هي تقترح شكلاً عاماً، لا يخص المقطع/الفيلم بحد ذاته، فقط. ومن نافل القول أن التشابه المذكور لم يقتصر على دورية الحراك بأسبوعيته وجُمَعه.
من هذا المدخل استطاعت “أبو نضارة” ربط “منتجها” الفني بما يجري على الأرض السورية، لكنه أيضاً ليس هو الربط المباشر بالواقعي. أن تطرح كل أسبوع “مقطعاً” وسط كل ما تقدمه الكاميرات من فائض مقاطع تطفح بها المواقع على الإنترنيت، هوَ تحدِّ ومأزق وضع أصحاب المشروع السينمائي أنفسهم في مواجهته. لكنه وفي الوقت عينه من الممكن أن يكون وسيلة ناجعة للدفع باتجاه فعل فني يكفل تحصيل أصالة خاصة، بمبارزة الواقعي و”اللعب” عليه.
تظهير سوريا الداخل فنياً بصورة قرينة للواقع وبموازاته، مهمة تجبر أصحابها وتمرّسهم على تجريده و”سنمأته”، لكن هذا التحوير يجري هنا أيضاً من خلال الالتصاق الشديد به (الواقع) صاحب السطوة الخاصة في الزمن المرصود.

تشتد تلك المواجهة بمقدار فداحة وهول الواقع “المقصود”. مع تنوع الأفلام من “الإبداعي” الصرف (كما يبدو) كفيلم “عسكر على مين” الذي يصور في خمس وأربعين ثانية دمية متحركة لجندي “قزم” يزحف ببندقيته على أرض شارع في سوق، بين سوريين عاديين “عمالقة” باعة ومتجولين على صدى أغنية “سنسقط المؤامرة”. إلى آخر بعنوان الإعلام يقتل “midea kill” يتحدث فيه ناشط بلقطة قريبة لوجهه المموه بالظلام، على مدى دقيقتين عن الإعلام المسيس الذي ليس من مصلحته “ألا تحدث مجزرة”. إلى ثالث عن مجزرة قرية البيضا التي لن نرى منها إلا جمال طبيعتها وبعض تفاصيلها ومن ثم الضحايا، كنبذٍ مقصود لحضور النظام الصريح مقابل غياب أرواح شهداء المجزرة. مع هذا التنوع وبالوصول إلى الفيلم المذكور أخيراً نلاحظ كيف أن مقارعة النظام و”طرده” خارج الكادر ستترافق مع تحدي ومحاولة كسر الصورة النمطية التي يتم بها تناول وتصوير المجزرة/المأساة السورية.
من هنا أيضاً تبلور “أبو نضارة” رؤيتها النظرية لخطة عملها العامة، كما سيتم التعبير عنها عبر مقالات تنشر باسم المجموعة، حول صورة السوري والطريقة التي يجب أن يُرى من خلالها. ومن هنا يستمر أصحاب المشروع في “توريط” أنفسهم في جدلية لا فكاك منها إلا في المضي فيها قدماً، كما هوَ حال خيار السوري في ثورته. هكذا سيكسبون “حرية” تصوير أو انتقاء مشاهدهم ولقطاتهم من “غابة وحشية مليئة بالأشواك”.
كان هذا حال الأفلام القصيرة المواظبة والمنتظمة لمجموعة “أبو نضارة” في خط متسق عام يزداد غنى تناوله باتساع الزاوية التي ينظر من خلالها إليه. على هذه السكة، وعند، وبعد فيلم “سوريا: يوميات الزمن الحاضر” يبدو من الضروري “التوقف” والنظر إلى تجربة الانتقال إلى صناعة فيلم طويل بالروحية عينها وبالتحديات التي “ورط” أصحاب المشروع أنفسهم فيها، ومن ضمنها إعطاء الكلمة للسوري العادي، “القائل” الحاضر “الجديد”.
في خمسين دقيقة يحاول “المخرج” صناعة فسيفساء عريضة وعامة مما اختاره من أفلام “أبو نضارة” المنجزة. فيكون الانتقاء الثاني بعد الأول في الأفلام “المفردة”. هكذا تقوم “أبو نضارة” –بالضرورة- بنوع من الغربلة، ستجبر أصحابها –أيضاً- على الاستمرار فيما بدأته في خطها العام. من هنا يَطرح التساؤلُ نفسَه، هل من الضرورة أن تكون نتيجة الفيلم الطويل وشكله على صورة السعي السابق وفق التوجه المصرح عنه نظرياً؟ هل يمكننا تحويل السؤال إلى: كيف للفيلم الطويل هذا بفسيفسائه أن يعكس صورة سوريا أو أن يظهرها بالطريقة “اللائقة” كما جرى توصيفها والتعبير عنها نظرياً أيضاً؟

فيلم يوميات الزمن الحاضر

سيكون ذلك من خلال إظهار سيدة في ريف إدلب تدرِّب الصبايا على تصفيف الشعر في ظروف قاسية (الفيلم القصير بعنوان “السيدة الأولى”)؟ أم أنهم “الداعشيون” (ومنهم ربما غير سوريين) وهم يغنون نشيدهم بلحن نشيد حزب البعث؟ أم هو رأي مواطن عادي يقبع تحت القصف يشرح لماذا التدخل الخارجي أكثر رحمةً من بقاء الأسد ووحشيته. أم هي أهازيج المتظاهرين و”سكراتهم” في لحظات انبثاقهم إلى الوجود من جديد في بداية ثورتهم؟ أم هي في حَفْرِ إزميل بدقة لاسم شهيد جديد على شاهدة رخامية؟ أو ربما في انقطاع شاهد عن شهادته ريثما تمر طائرة وتلقي بأثقالها ليعلم إن كان سيبقى على قيد الحياة؟ هل هي أخيراً في المزاج المكفهر العام كسمة غالبة في الفيلم؟
قد تدور هذه الترجيحات أو التساؤلات “المشروعة” في ذهن متلقٍ، اعتاد استقبال ما يسعى مشروع “أبو نضارة” إلى مناقضته: الواقعي الخبري، والنمطي(في تجارب أخرى). هوَ تلقٍ مباشر يناسب طرحاً مباشراً. وهوَ ما لم يسع إليه صناع الفيلم بأي حال، كما يبدو من البنية التكوينية للمشروع بشكله المتكامل أو للفيلم الطويل بمعزل عن الخط العام. يبقى إذاً أن الصورة المقصودة هي التجربة المتفردة عينها، تجربة الفيلم، فنيته، “استقلاليته” عن البعد السياسي، أخيراً حريته.
لكن، هذا لا يمكن أن يكون إلا جل الصورة، وهوَ ما حققه المشروع.
في بعد آخر سيكون على هذه التجربة أن تساءل، من باب الحرية و”الاستقلالية” عينهما وبعيداً عن التلقي المباشر، وبما يخدم إكمال الصورة: ألا تتقاطع “الصورة” التي تسعى إليها “أبو نضارة” بأهدافها، مع “الصورة” التي يريدها السوريون؟ هي بالضرورة كذلك حسب استنتاجنا (الأساسي) ما قبل الأخير. وإذا كان هذا الفيلم الطويل في أحد أوجهه وأهدافه مسعى إلى تجسيد عام للحالة السورية بأهداف ثورتها “اللائقة”؛ كيف تبدى ذلك سينمائياً من خلال مجمل تفاصيل الفيلم بما يمكننا أن ندعوه تجاوزاً “وجهة نظر” وبما يفيض عن حاجة “متلقٍّ مباشر”؟! تبدو هذه التساؤلات، المشروعة أيضاً، صعبة للغاية ومعقدة، ربما بدرجة تعقيد الحالة السورية ذاتها، بما يدل مجدداً على استمرار المأزق البناء الذي وضعت مجموعة أبو نضارة نفسها فيه. إذ كيف (في بعد آخر جديد) وانطلاقاً من الأهداف الأولى للثورة؛ “سيمر” الفيلم –مثلاً- على “دولة مستقلة ديمقراطية لكل مواطنيها”؟! كيف يستطيع –في هذا المسعى ووفق منطقه الفني- ألا يتجاوز المناطق الخاضعة لسلطة النظام برصد عدسته؟ هذا إذا لم يتجاوز مناطق وحالات خارجة عن سيطرة النظام، كانت ربما لتغير من شكل “الصورة”؟! كان هذا مثالاً عاماً افتراضياً فقط، طرح على سبيل الجدل، يخبئ خلفه أسئلة لانهائية تتغلغل في التفاصيل. ربما محاكاة نقدية لتلك الفنية –المستمرة- التي تطرحها مجموعة أبو نضارة في مقاربتها “للواقع”.


إعلان