الثورة الليبية من كندا الى مصراته


محمد موسى

يُصادف وصول فيلم “أول مَن يَسقُط” للمخرجة الكندية راشيل باث أندرسون الى صالات سينمائية اوربية مُنتخبة (عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان أدفا التسجيلي في أمستردام وبعدها في عدد من المهرجانات السينمائية الاوربية)، مع ما يبدو بأنه بداية نفق مُعتم لا يُعرف وجهته او طوله، والذي دخلته الحياة العامة في ليبيا في الأسابيع الأخيرة. لكن الفيلم التسجيلي الطويل، والذي يقدم الثورة الليبية التي أطاحت بمعمر القذافي، يُحافظ على رُوحاً فنية طازجة ولا يُصِيبه القِدَّم، والذي يتسلل بالعادة الى الأفلام التسجيلية التي تقدم أحداثاً مُعاصرة من أمكنة مُحددة، خاصة إذا تبعت تلك الأحداث، اخرى أشد وطأة ودرامية.

ملصق الفيلم

بنفس مَلحميّ ترافق المخرجة شخصيتي الفيلم لأكثر من عام كامل، فتبدأ معهما من كندا، مكان سكنهما الحالي، وبعدها الى ليبيا، البلد الذي آتت منه عوائلهما. هما: حميد وطارق، شابان ليبيان من أُسر تركت بلدها قبل أعوام بسبب مواقفها المعارضة للنظام الليبي السابق. ستربط الثورة الليبية الشابين بما يجري في بلدهما، الذي يعرفاه من الأعلام وحكايات الأهل. يهتم الجزء الأول من الفيلم بمرافقة الشابين في حياتهم في كندا، وكيف شغلت الثورة الليبية أيامهما هناك. هما سيتصدران التظاهرات التي تنطلق في مدينتهما الكندية للتذكير بما يجري في ليبيا، وسيسهران الليالي في متابعة ما ينقله الأنترنيت من أفلام عما يجري هناك من معارك وعنف. لكن هذا لن يكفي الليبيين الشابين، الذين يقرران التوجه الى ليبيا، الى البلد الذي بالكاد يعرفاه، والمهمة تصوير الثورة الليبية ونقلها للعالم.

وفرت طبيعة الثورة الليبية وتسلسل الأحداث فيها المناخ المناسب للفيلم لكي يلتقط أنفاسه في مواضع عدة ويقدم مشاهد متأنية بعضها يحمل جماليات لافتة. فالشابان سيصلان الى مدينة بنغازي والتي كانت تتمتع لأشهر بإستقرار جيد. يصور الفيلم مشاهد رائعة من المدينة الليبية المجهولة كغيرها من مدن البلد الاخرى، كالمشهد الذي يصور الطلة البحرية الجميلة لأحد أطراف المدينة، لكن ما تهبط الكاميرا من علوها، ستظهر السيارات المحروقة المتروكة قريبا من الساحل. في بنغازي، سيعرف حميد إن المدينة الآمنة هذه ليست ما كان يصبو إليه في رحلته، فيحزم أمره للتوجه الى مصراته، والتي كانت يدور حول أطرافها معارك قاسية للتخلص من سلطة جيش القذافي.

ستغير مصراته وما يحدث فيها من رُوح حميد، فيقرّ بعجز الكاميرا عن تهدئة البركان المتفجر في قلبه، والذي يغذيه الدم المتفجر في بلده يومياً. هو لا يُريد أن يكون م��فرجاً. فيقرر في مشهد لآفت بأنه سيحمل السلاح، والذي لم يستعمله في حياته. يقضي الفيلم الكثير من وقته في مصراته. وسيكشف بتفصيليه عن ما وقع هناك، وصعوبة وتعقيد معارك الكرّ والفرّ التي كانت تجري. سيأخذ حميد على عاتقه مهمة تصوير يومياته، وبعد إنسحاب فريق التصوير الأصلي للفيلم بسبب قسوة المعارك. وعندما ينضم إليه طارق، سيساعد هذا الأخير في التصوير، كما ينضم هو الآخر للمعارك المتواصلة.

بدا فيلم ” أول من يسقط ” في جزء كبير منه وكأنه نافذة لمراقبة سلوك أبطاله، وبالتحديد علاقتهم ببعضهم وما يعتريها من تبدل. حميد يمثل السلوك الذكري الشائع، بعدم قدرته عن الإفصاح عن دواخله واللجوء للمزاح وأحيانا السخرية من الآخرين. “طارق” بدوره، والذي فقد والديه بعمر مُبكر، هو شاب خجول مُنطوي على نفسه، ليّن في تعامله مع من حوله. يُسجل الفيلم تطور العلاقة بين الشابين، والتي وصلت مع إنقضاء الفترة التي سجلها الفيلم الى نهاية مؤقتة.

يكاد يكون الإهتمام بشخصيتي الفيلم الرئيستين يشكل خطاً درامياً خاصاً لوحده، تبلور ووصل الى ذروات نفسية عدة، كالمشهد الذي يصور وصول حميد لرؤية طارق الذي أصيب في المعارك، والجدال الذي إنطلق بينهما، والذي بين عجز “حميد” عن إظهار مشاعر الحزن، حتى في أحلك المواقف، وإنه، ولأسباب عديدة، يغطي كل ذلك بأقنعة متنوعة، بعضها يثير الحنق والغضب والتساؤلات عن الجوهر الحقيقي للشاب الليبي.
يعد الفيلم الكندي الإنتاج، الأول في تناوله للثورة الليبية، وتقديمها عبر شخصيات كانت هناك ومرّت عبر التجربة القاسيّة للثورة. ما ينجح به هذا الفيلم التسجيلي هو نقله لخواء الحرب وثقل الأيام على أبطالها. فالكثير من وقت الذين إشتركوا في حرب مدينة مصراتة، كان يذهب في الأنتظار، إنتظار الحرب. وحتى عندما تندلع المعارك، لا تبدو الصورة، كما قدمتها المُخيلات السينمائية، فالفوضى تعم على المشهد ويتعقد تعريفات “البطولة” او “البسالة”. الفيلم ينقل إصابة حميد، على الهواء تقريباً، أما إصابة طارق فلن تكون هناك كاميرا لتسجلها، لكن الفيلم سيصور محنته في المستشفى الليبي وبعدها في رحلة علاجه الطويله المتواصلة في كندا. الى جانب الصور الداكنة عن الحرب، يُقدم الفيلم أخرى مُلهمة، كالمشهد الشديد التأثير لمظاهرة نسائية ليلية في بنغازي، لتذكر دماء الذين رحلوا من الليبيين. هذا المشهد وغيره، سيجعلان مشاهدة الوثيقة التسجيلية هذه الآن، أمراً عسيراً ومحزناً، خاصة إن البلاد نفسها التي دفعت الكثير لكي تتخلص من نظامها السابق، تبدو اليوم على مشارف الإنزلاق لهوة سحيقة.


إعلان