هشام عبد الحميد وفيلمه التجريبي

أمير العمري

من عالم التمثيل في المسرح والتليفزيون والسينما، جاء هشام عبد الحميد لكي يخرج فيلمه الأول “لا” (72 دقيقة) كعمل طموح من ناحية الشكل، يعتمد على التجريب باستخدام أدوات ما يعرف في الفن بـ”الكولاج” collage الذي يتكون من قصاصات صحف ومجلات وصور ورسوم ولوحات تمتزج مع لقطات تسجيلية، مع لمسات واضحة من فن”خيال الظل” ومشاهد من التمثيل الإيحائي الصامت أو “البانتوميم”.

هشام عبدالحميد

يعبر فيلم “لا” عن رغبة مخرجه ومؤلفه في التعبير عن موقفه السياسي والإنساني الرافض لقهر الإنسان وقمع الشعوب، ومناهضة الديكتاتورية، وتقديم صورة ولو رمزية، للثورة المصرية وانتفاضات الربيع العربي في الشرق الأوسط. ورغم تركيزه بشكل ما، على تلك الثورات إلا أنه يربط بين ما تعرضت له شعوب تلك البلدان وبين صور القهر العديدة في التاريخ الحديث منذ صعود النازية في ألمانيا، مرورا بانتفاضة الطلاب في باريس 1968، وانتفاضة “الوعي الأسود” السلمية في الولايات المتحدة بزعامة مارتن لوثر كنج.
يفتتح هشام فيلمه ويختتمه بمقطع له دلالته الخاصة في الفيلم، من خطبة للزعيم الافريقي نيلسون مانديلا، الذي ناضل طويلا- كما يقول- ضد هيمنة البيض في جنوب افريقيا، ولكنه أدرك أنه يتعين عليه أن يقف ايضا ضد “هيمنة السود”، إلى أن وصل في وعيه إلى “ضرورة التعايش المشترك بين الجميع في إطار الدولة الديمقراطية والمجتمع الحر على أساس المواطنة وتكافؤ الفرص”.

التمثيل الصامت 
يعبر فنان البانتوميم في فيلمه- من خلال أدائه الصامت في الفيلم- عن رغبة الانسان في التحرر، عن قهر الإنسان للانسان، مذ فجر التاريخ أو كما يصوره في فيلمه، طفلا يولد حرا ثم رجلا يجد نفسه حبيسا عاجزا عن أن يقرر لنفسه ما يريد بل هناك دائما الوصي عليه، الذي يقص ملابسه، ويعريه تماما، أو يعطيه ماء حلوا في البداية ثم يسقيه ماء مالحا ثم حارقا، هذا الانسان هو نفسه الذي يشهد على ما تعرض له شاب مثل خالد سعيد من تعذيب وقتل على أيدي رجال الأمن في مصر عام 2010، وفي لقطة ذات مغزى لا تخطؤها العين يقص الرجل العلم المصري ويلقي به، ويحمل بندقية بعد أن نجح أخيرا في التحرر من القهر وقررالتصدي بالعنف لانتزاع حريته.. أو هذا هو على الأقل ما توحي به اللقطات. هل هو تحذير مما يمكن أن يقع، أو دعوة إلى حمل السلاج؟ ما يحسم الاجابة على هذا السؤال هو موقف الفيلم نفسه الذي ينحاز بوضوح لرؤية نيلسون مانديلا السلمية ومارتن لوثر كنج ورفضه الواضح للعنف.

الملصق

في مشهد آخر يستخدم هشام تحريك الأيدي على خلفية بيضاء على طريقة خيال الظل حيث نرى قبضتين تتراقصان تحاولان التعانق، تقتربان من بعضهما البعض، تنقبضان ثم تنفرجتان، وأحيانا تراهما مرفوعتين في الهواء تعبران عن الرغبة في التحرر على ايقاع المقدمة الموسيقية لأغنية أم كلثوم “أمل حياتي” (موسيقى عبد الوهاب).
وينتقل هشام من تجسيد الانسان المضطهد الى تشخيص صورة الديكتاتور على نحو ربما يذكرنا بشخصية شارلي شابلن في “الديكتاتور العظيم” (1941) الذي كان يسخر فيه من هتلر، اما هنا فهشام يسخر بوضوح من نماذج مثل القذافي وصدام: رجل في ملابس لامعة مصقولة أقرب الى ملابس المهرج، نظارات سوداء، صور فوتوغرافية تلتقط له وهو يتيه بنفسه إعجابا وغرورا كانه محصن، بندقية جاهزة يستخدمها في اطلاق النار على جهاز تليفزيون يبث الأخبار.. أخبار المظاهرات في بلاده.
لا يوجد هنا خيط قصصي ولو حتى على مستوى سرد متحرر، يربط بين أجزاء الفيلم دراميا أو في سياق تاريخي معين، فهو يعتمد على مشاهد مجزأة منفصلة ومقاطع تعبيرية بالأداء الصامت، لا يجمعها سوى وحدة الموضوع، ويخضع ترتيبها بصريا لمنطق يرمي الى خلق تأثير نفسي لدى المشاهد، يجعله يستعيد الفكرة بأكثر من شكل في أكثر من مكان وبلد وأكثر من حدث، مع الاهتمام الكبير بالصورة وتفاصيلها وتكويناتها البصرية: استخدام الأبيض والأسود الغالب على الفيلم فيما عدا لقطات محدودة يستخدم فيها الألوان أو يجعل عنصرا واحدا من عناصر الصورة ملونا (العلم المصري مثلا)، كما يستخدم الإيقاعات السريعة والموسيقى السريعة (نغمات البيانو الحادة) أحيانا، أو تعليق لمعلق رياضي على مبارة كرة القدم الشهيرة في نهائيات كأس الأمم الافريقية بين منتخب مصر ومنتخب غانا وهدف جدو الشهير الذي حسم نتيجة المباراة لصالح مصر، مع تعليق ساخر يقطع مسار الفيلم، في إطار التهكم على حالة السبات التي كان يعيشها الناس أو على دور الاعلام في تغذيتها.
هذا المشهد الطريف يبدأ أولا بلقطة متوسطة لهشام وهو جالس (واضح أنه خاضع لارادة سجان ما من حوله).. يتحرك السجان لكي يقص أولا ذراع الزي (البيجاما) الذي يرتديه ثم الذراع الآخر بينما هشام منشغل في اصلاح جهاز راديو، ثم يقص الرجل الصدر ثم الذيل الى أن ينزع ما بقى مما يرتديه هشام تماما ويقف ليواجه الكاميرا مبتسما ابتسامة كبيرة.. ابتسامة النصر، في حين يبدو هشام مشغولا فقط في الانصات باهتمام الى تعليق المعلق الرياضي على المبارة بعد أن نجح في تشغيل المذياع، وهو يمضغ شيئا ويحمل علما مصريا كبيرا بين يديه في حين يظهر شبه عار بعد تجريده من ثيابه!

من الفيلم

هذا النمط من الأداء الصامت (البانتوميم) هو ما يطبع الفيلم كله. ففي مشهد آخر قرب نهاية الفيلم يقف هشام أمام خريطة كبيرة للعالم العربي لينزع علامات الحدود بين الدولة العربية ليدخل رجال الى الصورة يلبسونه قميص المجانين!

حكم العسكر
من موسيقى مارش عسكري على لافتة تقول “لا لحكم العسكر” (يتكرر الشعار بوضوح مرات عدة إما بالكلمات العربية أو بالحروف الانجليزية التي تختصر الشعار في (No SCAF) إلى من يطلق عليهم هشام بسخرية واضحة “الناس السيئين”: صور فوتوغرافية للشهداء والجرحى ضحايا المظاهرات في مصر، وهي صور مفزعة تأتي بالطبع بعد مقطع كامل لصور المظاهرات نفسها  ثم تأتي صور “الناس الطيبين”.. هتلر وستالين ومالينكوف وصدام وبينوشيه وباتستا ومبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح وغيرهم، في مونتاج سريع على خلفية موسيقى عسكرية.
يستعرض الفيلم من خلال لقطات تسجيلية يستخدم فيها المخرج قصاصات الصحف والمجلات والصور الفوتوغرافية بدايات ظهور تيارات العنف السياسي باسم الدين، مع الإشارة إلى اغتيال العالم الديني الشيخ الذهبي عام 1975، وصولا الى اغتيال الرئيس السادات، ثم اغتيال رابين وتفجيرات نيويورك. لكن الخلط بين اضطهاد هتلر لليهود ف�� الفيلم وبين ما يحدث في العالم العربي لم يكن موفقا رغم أنه عبر عليه سريعا وأدخله عنوة الى سياق الفيلم، في حين أنه موضوع طويل ومعقد وله جذوره التاريخية. كما أن عبوره السريع على القضية الفلسطينية بالشكل الذي صوره لم يكن موفقا أيضا حينما جعل بطله يقوم برسم دوائر مغلقة متداخلة فوق خريطة فلسطين وهو يضحك في سخرية مشيرا الى أنها قضية عبثية لا يبدو أن لها حلا، قبل أن يتحول الضحك الى بكاء!

ملاحظات فنية
يعاني الفيلم أيضا من كثرة العناوين وتداخلها وتعاقبها السريع للغاية على الشاشة، فهي لا تقسم الفيلم الى تابلوهات أو مقاطع كما قد نتصور، بل إنه يضع على الشاشة عنوانا مثل “البداية” ثم يعقبه فورا “الحياة لذيذة” ثم “منديل الامان”.. إلخ وهي عناوين قد تبدو أحيانا وكأنها خارج السياق أو يؤدي تعاقبها السريع إلى نوع من التشوش في المشاهدة. هو مثلا يضع عنوان “النقاب” على مشهد لتراتيل مسيحية ورجل يقرأ كتابا يبدو هو القرآن، لكنه يهز رأسه مثل اليهود بينما يظهر أمامه صليب (في إشارة إلى الأصل الواحد للأديان) ثم يظهر البطل الصامت- أي هشام نفسه- وقد وضع صبغات لونية على شفتيه ووجهه قبل أن ينتقل لعرض صور صعود الفكر المتطرف. هذا المشهد بطريقة بنائه من ناحية المونتاج لا يبدو متماسكا ولا مفهوما ويبدو عنوانه غريبا على مادته أو أن هذا على الأقل استقبالي الشخصي للمشهد، كما يبدو مشهد تراقص اليدين المرفوعتين في الهواء على موسيقى أم كلثوم طويلا أكثر مما ينبغي مما يهبط بايقاع الفيلم عند تلك النقطة، وتحت عنوان “الحجاب” نرى اغتيال السادات، في حين أننا نرى مالكولم إكس في سياق يضعه جنبا إلى جنب مع هتلر، وهو ربط غير موفق في رأيي لأنه يتوقف عند مرحلة الشعارات المتطرفة لمالكولم إكس في مرحلة معينة في حين ان تطوره الشخصي سار في اتجاه رافض للتطرف فيما بعد.

ويعبر هشام على موضوع التنصت على المواطنين بسرعة، كما يوحي بسقوط رجال الأمن في 25 يناير 2011 من خلال صورة عسكري تتدلى رقبته على الشاشة كما لو كان قد شنق على خلفية لصورة الهرم الأكبر وشاشة سوداء مع موسيقى عسكرية، إلا أنه ينتقل بسرعة إلى فكرة مغايرة تماما عن تجارة البشر وتجارة الاطفال، قبل أن نرى “المهرج” يرقص بملابس زاهية ملونة وعلى ظهره تبدو كلمة “لا”.
ولعل كثرة الأفكار في الفيلم أدت ايضا إلى بعض التشوش وكان ينبغي التعامل بشكل أكثر حزما مع المادة لضبطها وجعلها تنتقل في سلاسة بين الخارجي والداخلي، اي بين التاريخ العالمي، وما حدث في المنطقة حديثا.
ومن أكثر مشاهد الفيلم طرافة المشهد الذي نرى فيه مقاطع من خطاب مبارك الأخير قبل أن تظهر دمية لمبارك على خلفية لمناظر من ميدان التحرير وهو يغني بالانجليزية “نهايتي اقتربت.. والآن جاءت مهمتي الأخيرة في التحرير.. لقد جرحوا دميتي..بنيت في كل شارع وكل حارة.. أنا الذي قطعت الانترنت… ممكن أنسى قائمة أسماء أصحابي.. فات الأوان..” (لا يكشف هشام عن مصدر تلك الأغنية ولا عن مصادر مادته البصرية ولقطاته التليفزيونية للاسف).
ويوجه هشام تحية الى قناة الجزيرة عندما يظهر في مشهد كقائد للأوركسترا يصاب أثناء الأداء بنوبة قلبية ويسقط إلا أنه يرفع مظلة تغطي رأسه يظهر عليها إسم قناة الجزيرة.
 التجربة لاشك في طرافتها وجديتها وأصالتها، فهي تبدو جديدة في سياق الفيلم التسجيلي والقصير بل إن فيلم هشام عبد الحميد يخرج تماما بطموحه الفني ولغته الخاصة في التعبير ومزجه بين أساليب ووسائل البصرية وتعبيرية متنوعة، يكاد يستعصي تماما على “التصنيف” أي أنه لا يخضع لنوع سينمائي معين فهو يتجاوز التسجيلي، ولا يتوقف أمام حدود الواقعي بل يتخطاه الى الخيالي، وبالتالي يظل عملا “تجريبيا” يستحق المشاهدة.


إعلان