المرأة المصرية وهاجس التحرش

محمد موسى

عادت الناشطة البلجيكية أنابيل فان دي بيرخه إلى القاهرة، المدينة التي عاشت ودرست فيها لسنوات إلى ما قبل الخامس والعشرين من يناير عام 2011، لتقابل ثلاث نساء مصريات من اللواتي عرفتهن قبل الثورة المصرية، بنيّة تقديمهن  في فيلمها التسجيلي “حلوى مصرية”. الكثير تغير في مصر منذ زلزال الثورة والأحداث التي تبعته، تُعلق الشابة في مستهل فيلمها. الذي لم يتبدل هو الوضع الهشّ للمرأة المصرية، ومعركتها المتواصلة لنيل حقوقها، وبحثها عن “الفارس” أو “القائد” الذي لا يكتفي بإنقاذ البلد من محنته، بل يُكْمِل مهمته ويوقف التدهور المُرِيع الذي تشهده علاقة المرأة المصرية بمحيطها الخارجي، ويحفظ لها إنسانيتها، ويجعلها قادرة على المشاركة في الحراك الشعبي، متحررة من الخوف الذي أصبح يلازم حضورها في الأماكن العامة

حلوى مصرية

يتجه التقرير التسجيلي البلجيكي سريعاً الى موضوعة التحرش التي تتعرض له النساء المصريات. لا غرابة في ذلك من عمل فنيّ يقدم هموماً نسائية كفيلم “حلوى مصرية”، فالموضوعة هي هاجس المصريات وكابوسهن المتواصل، فحسب تقرير للأمم المتحدة أشار إليه الفيلم، تعرضت حوالي 99,3 بالمائة من المصريات وعلى الأقل لمرة واحدة الى التحرش خلال حياتهن. موضوع التحرش سيكون أحياناً الوحيد في حوارات الفيلم التسجيلي القصير، الذي قامت بإنتاجه القناة التلفزيونية الحكومية.

اختارت إحدى صديقات الناشطة البلجيكية، الانسحاب من الحياة العامة بعد زواجها. هذه الفتاة والتي ارتدت الحجاب أيضاً بعد الزواج، ستُمَيِّع قضية التحرش، وتنفي، (كحال كثيرين يترددون عن تعرية مشاكل بلدانهم أمام تلفزيونيات غربية) أن تكون المشكلة بهذا الحجم الذي يتحدث عنه الإعلام. لا تعارض أنابيل فان دي بيرخه صديقتها القديمة، لكن الحوارات ستكشف أن الفتاة المصرية هذه في أزمة، وأن موقفها المحافظ هو نتيجة ضغوطات نفسية للتماهي مع المحيط الجديد الذي دخلته بعد زواجها، والذي لا يرضيه أن يكون للمرأة صوت أو أن تخوض في أمور حساسة كالتحرشات الجنسية. يركز الفيلم على اللغة الجسدية للفتاة المصرية وارتباكها الواضح، ثم يقدم بتوليف ذكي، المشاهد الصادقة الوحيدة من شهادتها في نهاية وقت الفيلم، والتي ستكشف عن مصاعب في حياتها الزوجية وخيبتها من حياتها الجديدة.

مشاعر الخيبة تهمين أيضاً على الصديقة الأخرى، لكن هذه المرة من الثورة المصرية. هذه الفتاة التي تسكن على بعد أمتار من ميدان التحرير ستكون هي نفسها ضحية تحرش. تصف الفتاة مجموعة الانفعالات التي مَرّت عليها منذ وقفتها الأولى في ميدان التحرير المصري، فهي من جهة كانت تريد كغيرها تغير واقع مصري مترد، لكنها وضعها الهشّ كأمراة جعلها مشغولة برهاب التحرش، وأحيانا هدف لنظرات وأفعال ذكورية عنيفة. يحقق الفيلم مقابلة مؤثرة مع والدة الفتاة وأختها. الأم تلك ستذرف الدموع عندما تتحدث عن القلق اليومي على سلامة بناتها، وشكوكها من فعل التغيير الذي يمكن أن تحمله أي ثورة قادمة

الحال سيختلف مع الصديقة الثالثة، والتي لازالت في وسط العمل الثوري الإجتماعيّ. سيرافق الفيلم الفتاة الثالثة في حياتها اليومية، المقسمة بين انشغالاتها المتعددة، (من ضمنها عملها في جمعية تحاول أن تحلل موضوع التحرش والبحث عن أسبابه، على أمل ايجاد الحلول الممكنة). يبين الفيلم الهوة الفكرية بين جيل مثقف من المصريين والمصريات، وذهنية السلطات الحاكمة، أو ما يُقدم في الإعلام المصري الشعبي الشائع، وإن الثورة التي كانت تُبشر بتضييق تلك الهوة، لم توفّ أيا من وعودها لحد الآن.

بالكاد يُسمع صوت أنابيل فان دي بيرخه في مشاهد الفيلم. لم تقاطع الفتاة  التي تتحدث العربية باللهجة المصرية صديقاتها القديمات، او تحاول أن تدير الحوارات أو توجهها إلى وجهات خاصة، هي اكتفت بالاستماع وتوفير البيئة المناسبة للفتيات لتقديم شهاداتهن بحرية، والذي قاد إلى لحظات صدق لافتة. كالمشهد الطويل لها مع الناشطة المصرية على تَلّة تشرف على أحد أحياء القاهرة، والمنولوج الطويل للفتاة عن أحلامها لبلدها. لم تتطرق الفتاة تلك لحياتها الخاصة، ففي زمن التحولات الكبيرة تنسحب الأحلام الصغيرة إلى الخلفيات.

عرض التلفزيون البلجيكي فيلم “حلوى مصرية”، قبل يوم واحد من الانتخابات المصرية الأخيرة، والتي شهدت مشاركة نسائية أكبر مقارنة بتلك الخاصة بالرجال، في إشارة  واضحة وبليغة عن رغبة النساء المصريات في التغيير، وحماسهن لمرشح بعينه، على أمل أن يعيد هذا المرشح الأمن المفقود  للشارع المصري، وينقذ النساء من المضايقات اليومية. لكن المفارقة أن الاحتفال العفوي بفوز ذلك المرشح همينت عليه حادثة تحرش جماعي صورها هواة، ونشرت بشكل واسع على شبكة الإنترنت، لتنضم إلى عشرات الأفلام الأخرى عن حوادث التحرش الجنسي في مصر في السنوات الأخيرة، والتي عرض بعضها الفيلم البلجيكي “حلوى مصرية”، أحياناً مع تعليق صوتي لأنابيل فان دي بيرخه.


إعلان