دماء العرب وشرفهم على قارعة الفيلم الوثائقي

لاروشيل – غسان أبوحسين

على عجل أو ربما ثلاثة عجلات: عجل السرعة وعجلتي الدراجة الهوائية الخاصة بالمهرجان، استطعت اللحاق بالجلسة الصباحية لما يعرف بـ”باتشينغ”، والباتشينغ لمن لا يعرفها هي أكثر ما يميز مهرجان “سني سايد”؛ وهي عروض صناع الأفلام المستقلين التي يقدمونها أمام المنتجين، بهدف إيجاد ممول لأفلامهم أو العثور على ممول شريك.
الطريق بين الفندق والمهرجان يمرّ بجانب الميناء التاريخي لـ”لاروشيل” حيث قلعتان تحرسان السفن، والناس بين مستمع بالشمس والهواء وبين مسرع على دراجته يحاول اللحاق بعمله.

من المهرجان

صمدت لاروشيل أمام أنواع شتى من الغزاة: البريطانيين الذين حكموها يوما ما قبل عدة قرون، والألمان الذين وجدوا فيها إبان احتلالهم لفرنسا موقعا استراتيجيا لسفنهم.
فجأة وجدت نفسي بعد أن اتخذت مكانا وسطا بين الجمهور –من دون ترتيب مسبق- وبحكم اسم القناة “الجزيرة الوثائقية” محكّما للعديد من العروض، لكن الملاحظة الأهم التي خرجت بها من خلال الجلسة، أن صورتنا نحن العرب تصنع في مثل هذه المهرجانات من دون استئذان منا، أو حتى بغياب غير مبرر لنا سواء في النقاش أو حتى التمويل.
أكثر من خمسة عروض قدمت للحضور والمهتمين: ثلاثة منها لا تبشّر بخير عن الصورة النمطية التي يبحث غبرها صانع الأفلام عن مجد تليد يحصده فيلمه بما يتضمنه من قصة مشوقة، والتشويق هنا مقترن بحجم الدماء التي ينزفها أبطال الفيلم من المنطقة سواء في سوريا أو العراق.
لكن العجيب الغريب –وأنا لست من أصحاب نظرية المؤامرة- أن الفيلم الخامس والأخير كان عن قصة يهودي هرب إبان سيطرة النازيين في ألمانيا إلى مكان يدعى “هاربين” في الصين، ليقع هناك في حب فتاة صينية، سحره جمال ساقيها فتودد لها قبل أن يقعا في غرام بعضهما وتنتهي القصة بالنهاية السعيدة المعروفة الزواج.
القصة تبدو حالمة وغارقة في الرومانسية –كما صرح بذلك صانع الفيلم- ولم أفهم مبرر الفيلم –رغم سؤالي- عن أهمية عودة بطل القصة اليهودي من الولايات المتحدة إلى الصين ليحتفل مع زوجته بمرور 66 عاما على زواجهما، وما هو الجديد في ذلك.
طبعا أحد الخبثاء من المنتجين الأمريكيين حوّل السؤال لي أثناء تعليقه: فيما إذا كانت الجزيرة معنية بالمشاركة في إنتاج هذا الفيلم، لكني كنت يقظا فأوضحت له –بكل مهنية- أن القصة تخلو من الحبكة، أما موضوع اليهود فليس لدينا مشكلة في عرض قصصهم، وهو ما فعلناه في الوثائقية حينما عرضنا سلسلة “إسرائيل من الداخل”.
الجواب الذي لم أستطع البوح به أمام الملأ: لماذا تعمّر زيجات اليهود أكثر منا نحن؟ وما هو السرّ في كون قصصنا المعروضة للبيع أمام المنتجين تطفح بالدماء، في حين قصصهم تطفح بالغرام.

لاروشيل

طبعا ستتساءلون الآن عن قصتي العراق وسوريا اللتين صفق لهما الحضور كثيرا، حسنا سأخبركم: الأولى لصحفي وصانع أفلام ياباني غطى الغزو الأمريكي للعراق، وصور خلال الغزو بطل القصة “علي” الذي فقد أخويه في الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، ليفقد ولديه في الحرب الأمريكية على العراق (2003)، وتعيش ابنته الوحيدة قبل أن يرزق بفاطمة التي لم تلبث أن تكبر حتى فقدت والدها (بطل القصة) في تفجير للقاعدة عام 2008 (الترجمة بالإنجليزية لم تذكر ذلك، لكن حديث أبوه بالعربي هو من أعلمني).
تنشأ علاقة صداقة بين الصحفي والبطل بما يسمح له بالعودة مرارا خلال السنوات العشرة الأخيرة إلى منزل علي ليصور مع أهله.
طبعا سؤالي الذي لم أجد له إجابة شافية، هل سيقدم لنا المخرج قصة العراق من خلال قصة علي، والشقاق الذي أصاب أهلها؟ وهل وقوف المخرج إلى جانب طيف من الشعب العراقي مبني على صداقته بالبطل، أم بجهله بالخلفيات الطائفية، أم بقناعة سياسية ومبدأية لديه.
أما قصة سوريا فهي لمنتجين صيني وكورية، تحاول الربط بين قصة عمرها أكثر من سبعين عاما لنساء من كوريا، أجبرهن الجيش الياباني -بحكم احتلاله لشبه الجزيرة الكورية- على العمل بمثابة رقيق لتقديم الخدمات الجنسية للجنود اليابانيين.
حتى هنا تبدو القصة معروفة، وقد أنتجت من أجلها أفلام سينمائية، ويدور حولها جدل كبير، حيث لا تعترف اليابان بخطئها التاريخي إلى اليوم، لكن الرابط العجيب الذي حاولت من خلاله منتجة الفيلم إقناعنا حين ربطت الماضي بتعرض فتيات سوريات للاغتصاب خلال الثورة الحالية.
سألتها كيف يمكن لك أن تربطي بين قصتين لا يربط بينهما إلا جاهل أو متعمد، لكي أكتشف من خلال حديثي أن فريق الإنتاج يحاول البحث عن مبرر ساخن لتقديم قصة قديمة استهلكت بحثا، فلم يجد سوى الشرف العربي كي يسوق للفيلم.
صدقوني يا جماعة، لست من أصحاب نظرية المؤامرة، ولكن كما أخبرتكم بالأمس: الصينيون قادمون وبقوة، إما أن يحضر المال العربي ليستثمر في الإنتاج الدولي الوثائقي، أو ستجدون دماءنا وشرفنا تباع وتشترى في عالم الوثائقيات من قبل جاهلين أو مغرضين.


إعلان