الغاز.. سلاح روسيا في حروبها

قيس قاسم

بعيداً عن ساحة “ميدان” ورمزيتها السياسية في الأحداث الأوكرانية الأخيرة،  كان المخرج أليكس شيراييف ينقب عن شيء آخر، عن مورد طبيعي،  له صلة مباشرة بالصراع الدائر بين جمهورية أوكرانيا، المستقلة منذ قرابة عقدين من الزمن، وبين جمهورية روسيا الاتحادية والذي سيكون ربما نفسه العامل الحاسم في تطور مجرياته مستقبلاً: ف”الغاز” الطبيعي على ضوء ما سيتوصل اليه وثائقيه كان سبباً في الهيمنة السياسية الاقتصادية الروسية على أوكرانيا لسنوات طويلة، أستخدمته وستظل تستخدمه كسلاح فعال، ليس معها فحسب بل مع بقية الجمهوريات المنضوية سابقاً الى الإتحاد السوفيتي وتريد، بعد تفكيكه التخلص نهائياً من ألتزاماتها السابقة مع “الأخ الأكبر” لتشق طريقها بنفسها.

المخرج شيراييف

فيلم “سلاح الغاز” لا ينقل الى مشاهده معلومات ومعطيات يمكن توفيرها بسهولة عبر شبكات الأنترنيت لكنه يأخذه الى أمكنة ومساحات جديدة تضيء جوانب حساسة من الصراع التاريخي الذي يتجاوز “الميدان” وصورته الاعلامية الضيقة الى ما هو أعمق، ليغدو الشريط بعدها منجزاً سينمائياً متفرداً ينتقل من التفاصيل البسيطة الى الأكثر تعقيداً. يأخذ المتداول من الأخبار ويربطها بالتكنولوجيا وتوفر الثروات الطبيعية، تناسقاً مع موضوعه المتصل مباشرة بمنتج قوي التأثير في السياسة والاقتصاد والتاريخ معاً.
يدخل شيراييف وفريق عمله الى الأحياء المحيطة بالميدان، بعد مظاهرات عام  2014 مباشرة،  ليتحرى عما تركته قرارات موسكو، برفع أسعار غازها المُصَدَر الى كييف ومطالبة حكومتها بدفع مستحقات ديونها لها خلال مدة زمنية قصيرة ـ على سكانها، بخاصة وأن حالة التذمر العامة وأحاديث الناس فيها كانت منصبة على الأزمة الاقتصادية التي خلفتها أكثر من الحديث عن غيرها من الخسارات البشرية والمادية التي لحقت بالساحة ومتظاهريها. في محل لغسل الملابس وكوَّيها تجسدت الأزمة بوضوح. لقد أرتفع سعر الغار أضعافاً وكان لزاماً على أصحابه رفع تسعيرة خدماتهم ما دفع شركات ومؤسسات، أغلبيتها تعود الى القطاع العام كالمستشفيات ودور الحضانة، الى التوقف عن التعامل معهم وبالتالي صار من المحتمل أن يتعرض مشروعهم الى خسارة كبيرة تجبرهم على أغلاقه. في بقية القطاعات الانتاجية أرتفعت الأسعار أيضاً نتيجة لأرتفاع سعر الغاز ما يهدد بأزمة أقتصادية جدية تجعل من أستقلال البلاد والمطالبة بالتخلص من الروابط القديمة مع روسيا أمراً شبه مستحيل ما يفسر بدوره لماذا ظلت العلاقة، على المستوى التاريخي، بين المُهيّمن الروسي وبين تابعه الأوكراني مستمرة رغم الكراهية الشديدة بينهما. في مراجعة تاريخية وعبر مخزون كبير من التسجيلات الوثائقية تتأكد حقيقة تاريخية سياسية تقول أن العلاقة تعود في جوهرها الى الغاز الروسي وليس الى شيء آخر وأن التخلص من هذا المورد يكفي لفك الأرتباط والى الأبد بينهما، وهذا ما تدركه روسيا جيداً، ويلعب بوتين عليه سياسياً فالأستقلال الأوكراني سيبقى ناقصاً ما دامتها تعيش على الغاز المستورد من روسيا ومن عمليات بيعه ونقله الى بقية الدول الغربية القريبة منها. لتفكيك وتحليل العلاقة الأقتصادية بين الطرفين أنكب كاتب السيناريو مالكوم ديكسليوس على جمع كم كبير من الوثائق والمعطيات ليكتب من خلالها نصاً سينمائياً قابل للتنفيذ محافظاً في نفس الوقت على الطابع التسجيلي الرزين للعمل دون تشتيت تركيز المُشاهد بأرقام وجزئيات علمية وبمراجعة تاريحية فائضة عن حدها.

الغاز في المنطقة

سيثبت التاريخ بأن الغاز الطبيعي الروسي قد أُستُخدم ومنذ ثورة أكتوبر وأقامة النظام السوفيتي كسلاح لمقارعة الأعداء ولكسب الحلفاء. لقد أغوت روسيا الدول الأشتراكية بالغاز الذي كان يصلها بأسعار رخيصة وأحيانا مجاناً، وأستثمرت توصيله عبر أوكرانيا لتبث دعايتها وتظهر أمامهم وأمام العالم كحليف كريم وصديق أيدولوجي مخلص فسَمَّت خطوط أمداداتها ب “الصداقة” و”الأخوة” وغيرها وكانت أوكرانيا المستفيدة الكبيرة من هذا العمل بعد روسيا طبعاً، التي أستخدمت الغاز كسلاح ضد الغرب، بدلاً من السلاح النووي والتقليدي وتجربة ألمانيا تظهر مدى نجاح هذة السياسة فالقسم الشرقي منها كان مكتفياً بالطاقة الرخيصة في حين ظل الجانب الغربي محتاجاً الى الغاز الروسي ليُشغل به مصانعه وستبقى نفس المعادلة قائمة خلال السبعينات وتظل حتى بعد توحيد الجانبين في نهاية الألفية والتي عبر عنها بوضوح السياسي والكاتب ويلي براند في كتابه “سياسة الشرق”: نشتري الغاز من روسيا ونتعاون كحلف غربي فيما بيننا في نفس الوقت. كانت روسيا واضحة في سياستها الأحتكارية ولخصتها عملياً بالقول: من يقف معنا يحصل على طاقة رخيصة ومن يُعادينا يُحرم منها. في عام 2005 أعادت “الثورة البرتقالية” تلك المعادلة السياسية الأقتصادية الى الواجهة وقدم الوثائقي عرضاً سريعاً لها. ما لم تدركه عامة الأوكرانيين أن العقلية الروسية ما زالت نفسها بل أن ثمة ميل لأعادة مجدها الأمبراطوري التاريخي وبالتالي عاملت أحداث “الميدان” عام 2013 كفعل مهدد لتوجهات قائدها الطموح الجديد بوتين فسارعت الى أخذ شبه جزيرة القرم وهددت بدخول أوكرانيا.

الغاز سلاح روسيا

على المستوى العملي سعت الى تدميرها أقتصادياً ومعاقبة من وقف معها. ذهاب الوثائقي الى جمهورية لتوانيا وبقية دول البلطيق يعطي صورة واضحة أراد النص المكتوب مطابقتها مع ما توصل اليه من نتائج، تشير الى رفع أرتفاع سعر الغاز في تلك الدول الى مستويات عالية تفوق أسعارها في الدول الغربية فسعر ألف متر مكعب منه في روسيا البيضاء حليفة الكرملين بلغ 170 دولاراً أمريكياً في حين وصل سعره في لتوانيا 470 دولاراً أما في كالينغراد فيكاد يكون سعره سعر التراب. ثمة حرب غير معلنة يستخدم المتحاربون فيها نفس السلاح: الغاز الطبيعي. فروسيا بوتين وللمضي في تعزيز قوة سلاحها بدأت بإستثمار شبكة أنابيها الجديدة للتخلص من علاقاتها القديمة بالدول غير الحليفة والتواقة للحرية عبر العمل على أكمال مشروع “نورد ستريم” الذي سيمر بالبحر الأسود بدلاً من الأراضي الأوكرانية، في الجانب المقابل يعمل اللتوانيون على أقامة منصة بحرية عملاقة لتفريغ السفن المحملة بالغاز المستورد من بلدان أخرى، تخلصاً من الإعتماد على الأنابيب الروسية. وفي أوكرانيا ثمة عمل دؤوب لأستخراج الغاز الصخري بديلاً عن الغاز الطبيعي الروسي بعد ان تأكد لهم وخلال الأزمة الأخيرة أن الغرب لا يغامر بخسارات صفقاته من الطاقة مع روسيا من أجل عيونهم وبالتالي أصبح الحل واضحاً بالنسبة اليهم:”الغاز سلاح وعلينا أمتلاكه للتخلص من الهيمنة الروسية!”. هل ستتمكن أوكرانيا من ذلك؟ يترك الوثائقي السؤال مفتوحاً ليسمح للتاريخ أن يقول كلمته بعد حين وقد يعود وقتها سينمائيون آخرون ليسجلوا وقائع جديدة عن “سلاح الغاز” وأثناء بحثهم في الأرشيف السينمائي قد يجدون فيلماً سَجل تلك الحقبة ودقق في السلاح جيداً لدرجة قد يندهشون من وضوح رؤية صاحبه للمادة التي أختارها وأنجز فيلماً مهماً عنهاً. 


إعلان