“وداعا للغة”.. تحفة جان لوك جودار

أمير العمري

لم يحضر السينمائي المجدد الكبير جان لوك جودار (83 سنة) الدورة السابعة والستين من مهرجان كان السينمائي جريا على عادته كلما عرض له فيلم في المهرجان. هذه المرة كان فيلمه الجديد “وداعا للغة”  Goodbye to Language مختلفا، فقد عرض أولا في المسابقة الرسمية للمهرجان أي متنافسا على “السعفة الذهبية” وغيرها من الجوائز، وقد نال بالفعل جائزة صغيرة، وهو حدث نادر الحدوث في مهرجان رفض قبول فيلم جودار الأول الشهير “النفس الأخير” About de Souffle (1959) الذي أعتبر مع فيلم آلان رينيه “سيرج الجميل” Le Beau Serge فاتحة حركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية التي غيرت مفاهيم السرد والتعبير في السينما الحديثة، وحطمت الكثير من القوالب التقليدية، متبنية أسلوبا في التصوير والمونتاج والتمثيل يختلف كلية عن المفهوم الذي كان سائدا قبلها.
فيلم جودار الجديد حزين ومدهش في آن. حزين لأنه يعلق بحزن عن الحالة التي وصل إليها الإنسان في عالم اليوم، عجزه عن التواصل، ضيقه بالآخر، تبريره لانعزاله، وقوفه على هامش ما يحدث في البنية العليا في المجتمع أي على مستوى السلطة. إنه كما يقدمه جودار نفسه طبقا لكلماته المنشورة في مطبوعات مهرجان كان عبارة عن: “فكرة بسيطة. إمرأة متزوجة ورجل أعزب.. يلتقيان، يقعان في الحب، يتشاجران، ترتفع قبضات أيديهما في الهواء، كلب شارد بين البلدة والريف، تتعاقب الفصول، يلتقي الرجل والمرأة مجددا، يجد الكلب نفسه بينهما، الآخر في واحد، والواحد في الآخر، ويصبحان ثلاثة. الزوج السابق يحطم كل شيء. الوضع كما كان في البداية. لكنه ليس كذلك. من الجنس البشري نمضي إلى المجاز. وينتهي هذا بالنباح، وصرخة طفل”!

لوك جودار

ملك التجديد
وهو فيلم مدهش لأن جودار، الذي يعتبر بمقاييس السن شيخا طاعنا، يفترض أن يركن فقط إلى ذكريات الماضي وما تحقق له فيه من أمجاد حتى أصبح “أيقونة” سينمائية لدى عشاق السينما في العالم، آثر ألا يستسلم للماضي، بل أقدم هنا على استخدام أحدث تكنولوجيا في الصورة أي كاميرا الأبعاد الثلاثة (لصنع فيلم الصور المجسمة)، في تلاعب ما بعد حداثي بالشكل كما كان يفعل في زمن آخر وبطرق واساليب أخرى، ولكنه لا يستخدم تقنية الـ3D لإبهارنا بعالم الفضاء والكائنات الخرافية وحروب الكواكب والمناظر التي تتجاوز نطاق كوكبنا أو تركز فقط على غرائبياته، بل في إطار الحياة البسيطة، ولوصف (إن جاز استخدام هذه الكلمة) تعقيدات الحياة اليومية بين رجل وامرأة بحيث يصبح التخاطب مع كلب أسهل وأكثر يسرا من التخاطب مع بعضهما البعض!
ما يجعل الصورة عند جودار تختلف عنها لدى غيره من السينمائيين، أنها صورة ليست مقصودة في حد ذاتها، وهي أيضا لا تأتي في سياق تعاقب منطقي درامي للصور، بل هي صورة تناقض ما ينتظر ويتوقع منها، سواء من حيث زاوية التصوير أو التكوين أو المونتاج الذي ينتقل قبل اكتمال أي لقطة بالصورة المعتادة، إلى لقطة أخرى، وحركة الكاميرا التي تسير وتتعمد الا تكشف سوى جزءا من مكونات الكادر السينمائي المفترض، والقفز من صورة لصورة يخضع فقط لمنطق ذهني تماما وليس لمنطق سردي narrative. جودار أيضا يتفلسف كعادته، ويقتبس ويستلهم من صمويل بيكيت، ومن داروين (الكلب هو الحيوان الوحيد الذي يحبك أكثر مما يحب نفسه) بل ومن هتلر (هتلر حقق كل ما تحدث عنه.. مثل فكرة الجمهورية التي سادت أوروبا، ومن الفيلسوف الفرنسي Jacques Ellui  جاك إيلوي الذي قال إن الدولة حصلت على القوة المطلقة في 1945.. (الارهاب هو الانتصار الثاني لهتلر). في أحد المشاهد تتساءل امرأة بصوت مرتفع من خارج الكادر على خلفية شاشة سوداء: نحن نلوم الدولة على تفشي البطالة.. هل أصبح المجتمع يتقبل القتل لمكافحة البطالة؟
هنا أيضا شريط صوت يتمتع بموسيقى مختارة بعناية من بيتهوفن ومن تشايكوفسكي وغيرهما، وتعليق صوتي يأتي من خارج الشاشة، ربما يكون هو صوت جودار نفسه أو المعادل له، أي صوت الفنان المعذب الذي يلخص رحلته في السينما والحياة، بالصوت والصورة، من خلال المعادل الذي يفضله أي “المجاز” metaphor  واللقطات التي تتقاطع معا وتقفز فوق بعضها البعض، وتنتقل من فكرة الى أخرى، في خليط اقرب إلى “الكولاج” في الفن، يمنحنا تلك الحالة البصرية والنفسية التي يجاهد جودار لتوصيلها إلينا، أو لعله لا يبالي أصلا بنا كمشاهدين، بل يشغله اكثر إفراغ ما في جعبته بعد كل تلك السنين!

وداعا للغة

تتعاقب لقطات لأوراق شجر تتساقط، لحمام يمتليء بالدم، مع أصوات طلقات رصاص في الخلفية، ونباح كلب، يتجول من غرفة إلى أخرى، ثم يقفز ليرقد فوق الأريكة في حجرة الجلوس الفخمة، ولقطات من أفلام قديمة بالأبيض والأسود (عيادة الدكتور كاليجاري، فرانكنشتاين، ثلوج كليمنجارو،  تعرض في الخلفية على شاشة عريضة بينما لا يشاهدها أحد، فالمرأة تجلس وظهرها للشاشة، بينما الرجل لا يظهر بوضوح أبدا في الصورة، والصوت الذي يأتينا من خارج الصورة، الذي يعلق ويشرح ويتساءل.

إستقصاء أدبي
يكتب جودار على الشاشة في مطلع فيلمه أن “التجريب إستقصاء أدبي”. ويقسم فيلمه بعد ذلك إلى فصول تحمل عناوين مثل “مجاز 1” و”مجاز 2″، “ذاكرة تاريخية- ثلاثية الأبعاد”. والكلب في الفيلم هو البطل الحقيقي، فهو موجود ويتحرك في معظم المشاهد التي تأتي بعد المدخل، نراه وهو يتقلب على حشائش الغابة المزهرة، وهو يتقلب على الثلج، وهو تحت المطر بين الأشجار الرجل يتساءل في احد المشاهد عن الحاجة الى انجاب طفل، والمرأة تقول إنها ليست واثقة من أنها تريد طفلا، بل تفضل الكلب. الكلب يترك فضلاته في الطريق العام. البحر هائج بأمواجه، والثلج يجعل الغابة تتجمد والكلب أيضا، الكلب ينبح، الكلب يجري في الغابة، الكلب يجلس مديرا ظهره للرجل والمرأة. تعليق صوتي عن حقوق الحيوان وان هناك 20 مادة تنظم هذه الحقوق، وكيف أن طفلا سأل أمه عندما دخل “غرفة الغاز” سؤالا واحد هو: لماذا؟ تساؤل حول مفهوم افريقيا. ومع كل محاولة للتواصل الحسي بين الرجل والمرأة، نعود إلى الكلب.
يقتبس جودار من الفنان التشكيلي كلود مونيه الذي قال إن الحيوانات ليست عارية لأنها لا تدرك أنها عارية وأننا لا يجب أن نرسم ما لا نراه. كما يقول إن الشاعر الانجليزي شيلي ولورد بايرون تركا إنجلترا واستقرا قرب جنيف مع ماري شيلي مؤلفة رواية “فرانكنتشاين”. ولكن أهم الأفكار التي تتردد في الفيلم تتعلق باللغة: لقطات على شاشة العرض الخلفية لحرب، لحريق، لانجريد برجمان، للكلب يعلق النباتات بالأبيض والأسود ثم بالألوان، والباخرة التي تبحر وعلى متنها شاب وفتاة في طريقهما الى أمريكا (الساعدة في أوروبا ليست فكرة جديدة). ولكن “ما الفرق بين اللغة والمجاز أو الرمز؟”. جودار رجل التلاعب بالصور يرى ان “الصور قتل للحاضر. والحاضر وحش غريب. وأين فعالية الصوت؟ وهل هناك جائزة نوبل للموسيقى والمسرح؟ وفي أي بنك كان يعمل نوبل؟ المراة عارية تضع الملابس في الغسالة الىلية الموجودة في المطبخ وتقول للرجل الذي لا نراه: لا يمكنك أن تطلق على هذا مساواة.

السفينة تبحر

“إننا نتحدث عن لاشئ.. نحن لم نعد نحب بعضنا البعض”. السفينة في عرض البحر تبتعد عن أوروبا العجوز، وترتفع موسيقى التشيللو والكمان الكلاسيكية الرخيمة من بيتهوفن، ونرى نساء نحيفات مثل عارضت الازياء وصوت رصاص وصوت رجل يقول: دعيه يموت. الدم يملأ حوضا قرب نافورة. المرأة دائما تظهر في المشاهد الخارجية من خلال نافذة حديدية وكأنها مقيدة داخل سجن حتى لو كان البحر في الخلفية. والرجل شبه غائب، موجود فقط كصوت، والموسيقى أحيانا حادة قصيرة سريعة وأحيانا أخرى منسابة لها رونقها ورصانتها. والقطعات عبر المونتاج للقطات لا تكتمل وتقفز من لقطة في الداخل الى لقطة في الخارج بدون مراعاة للتسلسل الطبيعي في العلاقة بين اللقطات jump cut وهي الطريقة التي عرف بها جودار منذ بداياته الأولى كنوع من التمرد والاعتراض على الطريقة الأمريكية في رواية قصة على الشاشة. إنه لا يروي، بل يجعل الفيلم قصيدة، يعبر من خلالها عن أحاسيس، عن فكر فلسفي، عن إحساس بالعالم مليء بالرفض ولكن أيضا بالرغبة في الفهم.
التكوين جزء أساسي في فيلم جودار، خاصة وأنه يتلاعب بالصورة في اطار تقنية الأبعاد الثلاثة التي يستخدمها هنا ضد منطقها التجاري الموظف في السينما، وهو يجعل الكلب في مقدمة الصورة، والبشر في الخلفية تعبيرا عن الافتقاد الى التواصل الانساني، يجعل حجم الانسان يبدو أصغر خاصة مع استخدام عدسة تجعل الصورة تبدو مضغوطة أو مشوهة. يستخدم الجسد الأنثوي بلا حرارة، ويجعل حركة الكاميرا كثيرا ما تنتهي الى شاشة سوداء.
إنه فيلم عن الموت والأفول والتلاشي والعجز عن التواصل، عن السينما البديعة التي كانت والتي لم يعد يشاهدها أحد، عن الفنان عندما يرثي لنفسه، عن العالم الذي أصبح التخاطب فيه شبه منعدم، ولم يعد هناك مجال سوى لصحبة الكلاب.
جودار يكشف ما وصلت إليه الحضارة الأوروبية من “جمود”، وهو ينتهك تلك النزعة المركزية الثقافية الأوروبية ويسخر منها (هم لا يعرفون أصلا مفهوم افريقيا)، يشير الى تفشي الأفكار الشمولية (التخلص من البطالة بالقتل مثلا!)، وإلى تلك “الجمهورية الشمولية” التي أصبحت تملك السلطة المطلقة، يتشكك في فكرة المساواة، يرى موت اللغة وربما أيضا عجز الصورة عن رؤية المستقبل. ويظل الفيلم رغم صعوبته عملا بصريا وذهنيا ممتعا، وتجربة أخرى تضاف إلى تجارب جودار.. ذلك المتمرد الأكبر في السينما المعاصرة.
ورغم ما في الفيلم من نزعة تشاؤمية عدمية، إلا أن جودار يتفاءل بالطفولة، بالأجيال القادمة، فهو يضع الأطفال في بؤرة الفيلم قرب نهايته، ورغم رفض المرأة للاطفال وتفضيلها الكلب إلا أن الفيلم ينتهي على أصوات الأطفال.


إعلان