كيف خدعت الصين العالم!
محمد موسى
تَشَغِل الطفرة الاقتصادية الكبيرة في الصين، والتي تتواصل نجاحاتها الباهرة رغم تعثر معظم دول العالم الغنية بالأزمة الاقتصادية العالمية الحادة، كثيرا من المختصين ووسائل إعلام غربية. الأمر الذي دعا قنوات تلفزيونية أوربية مؤخراً لتخصيص أفلام وبرامج تسجيلية للتحقيق في أسرار المعجزة الآسيوية الفريدة، في محاولة للإجابة على تساؤلات على غرار: كيف نَجَت الصين من التسونامي الذي ضرب أسواق العالم المالية في عام 2008؟ وماذا يحمل المستقبل للصين؟ التي تأتي بعد الولايات المتحدة الأمريكية، لجهة حجم سوقها الاقتصادي، وهل العصر القادم سيكون عصر الصين؟ البلد الذي لازال يتمسك بالشيوعية كشعار للدولة، لكن بأسلوب حياة بدأ يتجه الى الاستهلاكية والبذخ

يذهب الفيلم التسجيلي البريطاني “كيف خَدَعَت الصين العالم”، إلى الصين، وبالتحديد الى مدينة ووهان، ليحقق من هناك عن حال الصين بعد الأزمة الاقتصادية العالمية. في ووهان، المجهولة لكثيرين خارج الصين، تصرف الحكومة المحلية للمدينة المليارات لبناء العشرات من المشاريع العملاقة. لم تؤثر الأزمة العالمية على ميزانية الحكومية الصينية، والتي تقف خلف المشاريع الكبيرة في البلد. سيحقق المراسل الاقتصادي البريطاني روبرت بيستون والذي يقدم هذا التحقيق التلفزيوني، في مصادر هذه الأموال. لن يصل إلى إجابات مؤكدة، فالحكومة الصينية لا تُفصح عن مصادر دخلها أو كيف تصرف أموالها، لكن هناك من لَمّحَ، عن بنوك تعمل في الخفاء تقوم بمنح القروض للحكومة الصينية، بعد أن أصبح عسيراً على البنوك المعروفة ممارسة الدور نفسه الذي قامت به لسنوات. هؤلاء المحللون، يتوقعون أيضاً أن الصين ينتظرها يوم أسود، كالذي مَرَّ على الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2008، عندما كاد سوقها المالي ينهار وقتها، وكان ذاك التاريخ المُقدمة للأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة.
مع الأرقام والتفاصيل الاقتصادية المُعقدة، يجتهد الفيلم البريطاني الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي)، في محاولته ربط الجانب الاقتصادي بحياة الصينيين العاديين. فهو مثلا لا يكتفي بالتجول في البنايات الفخمة جداً، والتي يشيد منها مئات الآلالف في كل البلد الشاسع في مساحته، بل يعثر على شباب حانقين على الطفرة الاقتصادية التي زادت من غنى الأغنياء، ولم ينتفع منها الفقراء ومحدودو الدخل. يُعلق شاب كان يقف أمام مجمع للبنايات الضخمة، بأن الأغنياء في الصين يشترون شققا كهذه ويتروكها فارغة، فيما يعجز هو عن إيجاد المسكن المناسب. صينيون آخرون عبروا علانية عن يأسهم من وضع بلدهم ومن المستقبل، فأي تغييرات اقتصادية كبيرة يمكن أن تُوقف “الكارثة القادمة”، يجب أن ترافقها أخرى سياسية تطال نظام الحزب الواحد الذي مازال يحكم الصين، وهو أمر بعيد المنال حالياً.

رغم أن الفيلم البريطاني ينطلق، وكما يشير العنوان، من أن الصين قد خدعت العالم، وإن نهاية المعجزة الصينية وشيكة، إلا أنه تناول أيضا بعض الفرضيات التي تقول إن الصين ربما حققت هذا النمو الاقتصادي والحركة العمرانية الهائلة بسبب تركيبتها الخاصة، والتي هي مزيد بين اقتصاد مفتوح لكن بإشراف مباشر من الحكومة الصينية، فهذه الأخيرة مازالت تملك الشركات الكبرى في البلد، والتي تشغل الملايين من العمال والموظفين، كما إن مُعدل الأجور في الصين يختلف عن أوربا، لذلك يحلم عمدة لندن أن يتوفر له ما هو متاح لعمدة بلدية ووهان الصينية من موارد مالية وبشرية وكما وصف روبرت بيستون. الفيلم يمر بحيوية على عدد من المواضيع ويقابل شخصيات نافذة، كما توفر الحرية الكبيرة الممنوحة للتفزيونات الغربية في الصين في الأعوام الأخيرة، للفيلم الفرصة لكي يسأل أسئلة مُهمة للصينيين الذين يعيشون هناك، والذين بدؤوا يعبرون عن رفضهم لما يجري في بلدهم وبطرق مختلفة.
فقراء وأغنياء في الصين
على عكس الفيلم البريطاني، تنشغل الحلقة التلفزيونية المُخصصة للصين من البرنامج التسجيلي البلجيكي الهولندي “فقر/غنى” بالقصص الإنسانية الصغيرة، ولا يحاول أن يجد أجوبة لأسئلة إقتصادية مُعقدة. يقوم مقدم البرنامج البلجيكي يان ليرس، بمقابلة صينيين من طبقات مختلفة. هؤلاء سيصفون حياتهم اليومية وما يشغلهم. من شخصيات الحلقة، سيدة من أسرة عريقة سلبها الحكم الشيوعي الصيني كل ممتلكات عائلتها،. تُعَّد هذه السيدة اليوم، وبعد أن أعادت الصين بعض ممتلكات أهلها لها، أغنى نساء الصين. أنشأت هذه السيدة والتي تعدت الستين من العمر متحفاً صغيراً لمتعلقات أهلها. هي تمثل الصين القديمة، من زمن ما قبل الشيوعية، والتي تريد أن تستعيد مكانتها، خاصة بعد أن تغيرت الصين نفسها، ولم يَّعد النظام الذي فتح الأبواب للصينيين لجني الأموال والبحث عن سعادتهم ورفاهيتهم، قادرا أن يمنع ما صُنِفَ في الماضي بأنه “برجوازي” و”رأسمالي”.
يفصح البرنامج الهولندي- البلجيكي الإنتاج عن الفروق الأسلوبية بين ما يصدر عن هيئة الإذاعة البريطانية، وما تقدمه بلدان أوربية صغيرة. فالأخيرة تميل بالعادة إلى تسجيل متأن للحياة اليومية، على خلاف “بي بي سي”، والتي تختار كثيرا من برامجها في الأعوام الأخيرة لتقديم صورة عامة والتوجه إلى جمهور كبير. يقضي برنامج “غني/فقير” معظم وقته بين الناس العاديين، فيقدم دقائق طويلة لمسنين صينين يقضون ساعات فراغهم في حديقة عامة، ومع عمال لا يملكون أي وقت للفراغ، فهؤلاء، ومنذ تركهم قراهم البعيدة واتجاهم للمدينة للعمل، يقضون معظم أيام السنة تقريباً في العمل الشاق، في تشييد بنايات فخمة للأغنياء مثلاً، رغم أنهم يعيشون في دولة افتخرت لأعوام بمساواتها بين أبناء شعبها.