“ماي فيكسلمان” وتوثيق التراجيديات البشرية
تعرف المخرجة السويدية ماي فيسكلمان متى ترمي صنارتها ومتى تسحبها لتحصل على ما تريد بأقل التكاليف وهذا ما جعل منها واحدة من أنشط السينمائيات في اسكندنافيا وأكثرهن أثارة للجدل بسبب طبيعة الوثائقيات التي عالجت فيها قضايا سياسية وفكرية خطيرة بمنظور نقدي حاد النبرة وبأدوات تقنية غاية في البساطة كانت المقابلات الصحفية في الغالب جزءًا منها كما في “من البداية حتى النهاية”، “أحب للآخرين كما تحب لنفسك!

” اللذين تناولا الحرب على العراق وفيلمها الرائع عن القضية الفلسطينية “بشر مثل نجوم راقصة” وأنتقادها الشديد في “هذا متوقف عليك!” لشركات نفط سويدية، يملك قسماً منها وزير الخارجية، لعبت دوراً في اثارة الحرب الأهلية السودانية، وحتى في “شخصياتها” الوثائقية ثمة أنحياز واضح في أختيارها لصالح موقفها كسينمائية معارضة لكل أشكال الأستغلال كما في آخرها، الذي عرض في مهرجان غوتنبرغ السينمائي وأستقبل نقدياً بشكل جيد: “شاهد على عصره” وفيه دخلت الى عالم المصور التلفزيوني السويدي كلاس ـ يوران بيمر، عبر ما صورته كامرته، كمراسل صحفي لأكثر من ثلاثة عقود، ومن حصيلة مقابلاتها معه رسمت لوحة لطبيعة عصرنا بفرشاة شاهد عليه فيه من الخصال ما يرفعه الى مرتبة الشاهد ـ المشارك على تراجيديات معاصرة رغم كل حياديته، لأنه وقبل غيره، كان يعتبر أن ما يوثقه واجباً “في مثل هذه الأوضاع يستحيل أن أكون وسطها دون كاميرا. فواجبي يفرض عليّ أن أوثق هذة التراجيديات البشرية ودون تردد”.
مثل كل الواجبات الخطيرة فيها الكثير من التبعات وتبعات عمله كمصور تلفزيوني كانت غالية فقد أصيبت رئتاه بعجز كبير بعد أستنشاقه غازاً ساماً أثناء تغطيته أنفجار مصنع “يونين كاربيد” لأنتاج المواد الكيمياوية في الهند. هذه الحادثة ستكون مدخلاً الى عالم كلاس ـ يوران الذي أرادته أن يكون “موضوعاً” رئيساً، يتفرع وفق ملاحقة تفاصيله الى فروع ثم يذهب في أتجاهات عدة، فالكائن البشري وبغنى تجربة صحافي مثابر وشجاع مثله لا يمكنه الأرتكان الى تجربة واحدة ولا القبول بالتوقف عند محطة واحدة لا يبارحها والطريق أمامه مازالت طويلة وعليه المضي فيها رغم وعيه بجسامة مخاطرها وما سيدفعه ثمناً للمشي فوقها. ثمة مفارقة تتعلق بحياة كلاس يوران تلتقطها فيسكلمان بحسها السينمائي وتشتغل عليها بطريقة آخاذة. فالرجل الذي يجلس أمامها الآن، في آواخر عام 2012، عام بدء التصوير، والذي بالكاد كان يستطيع ألتقاط أنفاسه عبر أسلاك تمرير الأوكسجين البلاستيكية، قد توقع له الأطباء الموت قبل هذا التاريخ بمدة طويلة لكنه وفي كل مرة كان يقترب من قبره يغير رأيه فجأة ليعود الى الحياة ثانية بروح تواقة لعيشها. أغلب المقابلات كانت تجريها معه المخرجة السويدية وهو جالس على كرسيه المتحرك آلياً، حاملاً كامرته يصور المشاهد اليومية لمدينته، وكأنه رجل معافى لا يعاني من مرض سرطان البروستات ولا يتنفس برئتين قدرتهما على العمل أنخفضت الى أقل من عشرين بالمئة. ذاكرته لا زالت متوقدة وحماسته لأفكاره وقناعاته مدهشة. على المستوى التقني سهل توفر ريبورتاجاته المصورة في أرشيف التلفزيون السويدي وفي مكتبته الخاصة على توسيع مساحات المحادثة بين صانع الوثائقي ومنجز الريبورتاج، وبحصافة السينمائية وخبرتها الطويلة تمكنت من ترتيب فيلمها زمنياً وفق مراحل عمله كمراسل صحفي في أمكنة مختلفة تواجد فيها ومن خلال الاسئلة والأجوبة حولها كانت تحيط مشاهدها بالمعلومات الضرورية عنها من جهة ولأشباع فكرتها وتحديد موقفها منها من جهة أخرى.

وعلى المستوى الشخصي كان حديثه عن نفسه كافياً ليحدد ملامح كتابته وثائقياً، ولهذا السبب لم تركن فيكسلمان الى ترتيب منتظم للزمن ولا للمكان لقد تركته على هواه يقول ما يفكر به ثم تأخذ دورها كسينمائية فيما بعد لتحول لغته الشفهاية الى لغة سينمائية وقد تجلى ذلك بشكل ملفت عند تناولها بدايات تكوينه ومشاركته في شبابه قوات منظمة الأمم المتحدة لحفظ السلام في أفريقيا حين كان على رأس المنظمة أنذاك ابن بلده المغدور به داغ هامرشيلد .
أحساسه العالي بالعدالة وهو في بداية العشرين من عمره وقناعته المتولدة من التجربة بأن حروب القارة الأفريقية وبخاصة الكونغو منها، أنما تخدم مصالح القوى والدول الاستعمارية وتحقق أغراضها في أستغلال ثروات شعوب هذه المنطقة الغنية بها وصلته الى استنتاجات خطيرة من بينها أن الحكومة البلجيكية كانت تدعم المرتزقة البيض في معارك كاتانغا بداية الستينات وتزودهم بالسلاح وتغذي فيهم بشكل منهجي النزعة العدوانية ليدمنوا على “مخدرات العسكرتارية”. لقد تلمس عن قرب وجود الوحش الكاسر في دواخل البشر وقال أن “في داخل كل واحد منا وحش مخيف”. سيترك هذا الأنطباع وفهمه أسباب الحروب وطبيعة البشر ودور الشركات الرأسمالية في استغلال الدول الفقيرة الى تكوين وعيه المتقدم الذي سيسهل عليه عمله الصحفي لاحقاً، وسيكون سبباً في نجاحاته المهنية لأنه تعلم كيف يتناول أي حدث سياسي أو عسكري ويربطه بمسبباته غير الظاهرة ولهذا كانت تجربته اليابانية مثيرة لأنه استطاع خلالها أنجاز واحداً من أخطر الريبورتاجات عن عصابات ياكوزا، المتنفذة والتي أصبحت بمستوى أمبراطورية أقتصادية تنافس الأمبراطورية اليابانية بل وأجبرت الأخيرة للتعاون معها، كما كشف تسريبات المفاعل النووي في طوكيو التي أرادت السلطات التستر عليها تماما كما تعمل الآن مع مفاعل فوكوشيما والذي أنجزت فكسلمان فيلماً عنه بعنوان “المفاعل الأكثر آماناً!”.

وفي فيتنام وكمبوديا عرف حقيقة الحرب التي تجري هناك ويعد ريبورتاجه عن هجرة فلاحي القرى المحيطة بسايغون كشفاً لفضيحة عسكرية وسياسية بعد أدعاء الماكنة الاعلامية الأمريكية بأن الشيوعيين قاموا بتهجير الناس من قراهم عنوة ولكن أتضح له خلال تواجده بين النازحين الى فنوم بنه أن هجرتهم قد تمت بعد قصفهم بطائرات “ب 52” ضمن خطة مدروسة أرادت أفراغ المناطق المحيطة بالعاصمة ليسهل أحتلالها فيما بعد. وفي كمبوديا عرى جرائم بول بوت، وأقامته الإجبارية في سجونها زادته تماسكاً وقوة. تجربة صحفية غنية وثقتها فيكسلمان بمقابلات مع زملاء له رافقوا مسيرته المهنية الطويلة وشهادتهم فيه كشفت معدن رجل متراض مع ذاته ومنسجم معها. لم يكذب حين غطى الأجتياح الأمريكي الفاشل للسواحل الصومالية بل على العكس عرى كذب وسائل الاعلام الخادمة للمؤسسة العسكرية الأمريكية وأيضاً سفه خفة بعض المراسلين الذين حوروا وقائع أعتقال المارنيز له، أثناء نزولهم ثم الافراج عنه دون متاعب، الى قصة اعلامية ملفقة ومضخمة كتبها أحد المراسلين الهولنديين والذي كان على بعد أمتار من الحدث. أحاديثه دروس في الأمانة الصحفية والنزاهة المهنية وقوة مثال على التفاتني في ألعمل رغم خطورته وشهادته الحقيقية عن التدخل الأمريكي في أفغانستان والحرب الأهلية في البوسنة وغيرها انما هي تلخيص لسفر غني كتبه كشاهد على عصر عاش فيه عليل الجسد قوي الأفكار مخلصاً لقناعاته. شهادة صادقة لمصور تلفزيوني عرفت مخرجة سويدية ذكية كيف تستثمره لتسجل رؤيتها لذات الأحداث التي قام بتغطيتها والتي ترسم بدورها صورة شديدة القتامة كابوسية، رسمت الى جانبها صورة سينمائية مغايرة، أكثر أشراقاً، لرجل شجاع أسمه كلاس ـ يوران بيمر: شاهد على عصره!